لم يجد المسؤولون السودانيون سوى التراجع السريع عن حكاية الانقلاب التي تحدثوا عنها في سياق اعتقال زعيم حزب المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي، ليشرعوا بعد ذلك في الحديث عن التحريض الذي يمارسه الرجل وحزبه. كان من الواضح أن الترابي لن يمكث طويلاً خارج السجن، فالرجل، كما هي عادته منذ عقود، يشرب كأس السياسة حتى الثمالة ويتحرك بطريقة مكوكية لا يمكن لخصومه ضبطها، بل ربما متابعتها، سيما وهم من تلاميذه الذين يدركون تماماً قدراته الخاصة على نسج الخيوط وترتيب الأوراق على مختلف الأصعدة. من هنا لم يكن أمامهم للخلاص من هذا الصداع المزمن الذي لم تعد تنفع فيه المسكنات سوى وضع الرجل رهن الاعتقال ومعه عدد من قيادات حزبه، إضافة إلى حل الحزب لكي لا يتخذ من اعتقال زعيمه مادة للعمل السياسي إضافة إلى عدد من الملفات الجاهزة للمناكفة ومنها الملف الذي اتهم الترابي باستخدامه من أجل التحريض على الحكومة ممثلاً في نزاع دارفور. على أن الأزمة التي تعانيها الحكومة السودانية لا تتلخص في حركة الترابي كي يقال إن القوم سيأخذون قسطاً من الراحة بعد اعتقاله وحل حزبه. فملف دارفور المشار إليه لا يزال مفتوحاً. أما الأهم فهو ملف المفاوضات مع حركة التمرد الذي خطا خطوات كبيرة كانت في معظمها نتاج تنازلات أساسية من نظام الإنقاذ، لكن وصول المفاوضات إلى نقاط أكثر حساسية تشير إلى أن المطلوب هو هيمنة من طرف جارانج على البلاد ونهاية حزينة لمشروع الإنقاذ. كل ذلك قد أدى إلى تعثرها، الأمر الذي استدعى تدخلاً سريعاً من طرف واشنطن جاء مشفوعاً بالكثير من التهديد، ما وضع المسؤولين في الخرطوم أمام مأزق حقيقي دفعهم الإحساس بضرورة التفرغ له إلى وضع الترابي الذي يرهقهم بتحركاته في السجن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان اعتقال الترابي سيمنحهم فرصة الإنجاز على صعيد المفاوضات مع جارانج في ظل الضغوط الأمريكية، أم سيمنحهم فرصة التنازل من دون مزايدات سياسية من طرف الرجل الذي يجلس لهم على ركبة ونصف كما يقال منتظراً أي خطأ كي يستخدمه ضد من أقصوه من اللعبة بتلك الطريقة المهينة وربما عديمة الوفاء. إلى ذلك تنهض أسئلة مواقف الأحزاب الأخرى التي غطى الترابي بحركته المكوكية عليها خلال الشهور الستة الماضية، وهي ولا شك ستكون في موقف حرج لا بد لها معه من الدفاع عن الرجل والمطالبة بالإفراج عنه. كما ينهض سؤال موقف حركة التمرد ذاتها وهي القادمة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث يتوقع لها أن تكون أول المبادرين بالمطالبة بالإفراج عن الشيخ. خلاصة القول هي أن الحكومة السودانية لا زالت تعيش مأزقاً كبيراً، أكان في علاقتها مع الداخل بأحزابه وجماهيره، أم مع الخارج الضاغط بقوة عليها من أجل التنازل لمن دفعت الكثير من التضحيات في سياق الصراع معهم، ما يعني أن استمرار فتح كل هذه الجبهات لن يصل بها إلى خير، لأنها ستكون أمام خيار مر خلاصته التنازل للخارج من أجل البقاء كما هو حال ملوك الطوائف في تاريخنا، لكنه بقاء لا يطول اللهم إلا إذا كان ذليلاً ويخدم مصالح ذلك الخارج على نحو كبير. أما الخيار الآخر الأفضل فهو التنازل للداخل مع ترتيب الأوراق عربياً، وتحديداً مع مصر. فإلى أي الاتجاهين تسير سفينة الإنقاذ؟ هذا ما سيتضح لاحقاً. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني