مر هذه الأيام ذكرى معركة الفلوجة الثانية والنظام العراقي يحشد قواته، من جديد، لخوض معركة ثالثة ورابعة، في ربوعها بحجة استعادة المدينة من سيطرة «داعش»، في الوقت الذي يؤكد فيه متحدثون باسم المدينة بأن القصف العشوائي والقصف بالبراميل المتفجرة، المستمر منذ سنوات، يستهدف المدنيين عمدا، لأن المسلحين لا يبقون وسط المدن التي يسيطرون عليها بل يتوزعون على محيطها لرد التسلل للحكومي، وهو ما تم حتى اليوم. والنجاح الذي حققته حملات المنطقة الخضراء هو محاصرة المدنيين وإجبار الآلاف منهم على النزوح إلى معسكرات ومبان لا تصلح لإقامة البشر. لا أحد يعرف ما الذي ستؤدي إليه العمليات العسكرية المتتالية، من قتل وتخريب نتيجة استشراء روح الانتقام والكراهية بين قوات النظام، وفي ظل حملة تضليل منهجية، أصبح فيها الفلوجي، «داعشيا» بعد أن كان «بعثيا»، بالامكان اجتثاثه، قانونيا، مهما كان عمره أو جنسه. وفي ظل انتشار ميليشيات لم يعد أحدنا قادرا على جرد أسمائها، لكثرتها، ولادعائها جميعا الدفاع عن الكينونة الإلهية، بالاضافة إلى وجود عدة آلاف من «المستشارين» الإيرانيين والأمريكيين ومرتزقة الشركات الأمنية، الذين خلافا لكل المستشارين بالعالم، لا يتم الكشف عن أسمائهم إلا حين يتم تشييعهم، ملفوفين بإعلام بلدانهم، تمر ذكرى معركة الفلوجة ملفوفة بالصمت المحلي والعالمي. السبب؟ محليا، لأن الفلوجة لم تعد مجرد مدينة احتضنت بطولة مجاهديها وشهدائها ممن قارعوا المحتل وواجهوا أكبر قوة غزاة عسكرية، بالعالم، عام 2004 فقط، بل انها باتت، بنسائها، وأطفالها، وأجنتها من ورثة آثار القصف بالفسفور الابيض والنابالم و اليورانيوم المنضب، المشوهين على مدى سنين المستقبل، رمزا حيا لعار المتعاونين مع الغزاة، ساسة «العراق الجديد». فهي المدينة التي رفضت الخنوع ووقفت بإباء لتقاوم المحتل، مطالبة بخروجه، بينما كان ساسة الاحزاب الدينية والعلمانية وما تسمى بالمدنية، يساومون، ويقايضون بمصائب الناس وثروة البلد وتقسيمه. دوليا، لا أحد يريد أن يتذكر الفلوجة. إذ ليس من المعقول أن يحاول المجرم التذكير بجريمته أو تذكرها. ما يصبو اليه المجرم، عادة، هو طمر الجريمة بأية طريقة ممكنة ومحوها، إذا كانت على مستوى الدول والحكومات، من الذاكرة الجماعية. وهذا ما أشار إليه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي حين كتب (21 يناير 2015)، مقارنا بين ردود الافعال على مقتل صحافيي شارلي إيبدو ومراسلي غزة والهجوم على مستشفى الفلوجة من قبل قوات المارينز في نوفمبر2004، وفق مفهوم الذاكرة الحية الذي «تم صنعه بعناية ليتضمن «جرائمهم ضدنا» وفي نفس الوقت يتم استبعاد «جرائمنا ضدهم» وبدقة، فالأخيرة ليس جرائم وإنما دفاع نبيل عن مثلنا العليا، التي تكون في بعض الأحيان عن غير قصد معيبة». اعتبر تشومسكي الهجوم، «جريمة حرب خطيرة». وتم نقل خبر الهجوم، في الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز»، مرفقا بصورة تظهر كيف أن «المرضى وموظفي المستشفى تم إخراجهم بسرعة من الغرف من قبل جنود مدججين بالسلاح وتم أمرهم بالجلوس أو التمدد على الأرض في الوقت الذي كان فيه الجنود بصدد تقييد أياديهم من الخلف. لقد تم تبرير ذلك الهجوم وما جرى في المستشفى واعتبر قانونيا باعتبار المستشفى «سلاحا دعائيا» بيد المسلحين. كيف؟ لأن المستشفى كان يصدر بيانات عن عدد الجرحى والقتلى. ان مهاجمة واغلاق المستشفى خرق خطير لمعاهدات جنيف التي تنص على وجوب حماية المستشفيات». الأكثر من ذلك، اعتبر جنود المارينز مهمتهم بالفلوجة فرصة للانتقام من « العصاة»، فقاموا بالتمثيل بجثث المقاومين، وتهديم سبعين بالمئة من بيوت المدينة ومحالها ومساجدها. وهو مؤشر إلى ما سيحدث، في المستقبل القريب، حين «تحرر» ميليشيات الحشد المشحونة بالحقد المدينة. هذا غيض من فيض من الخروقات والانتهاكات التي ارتكبتها قوات الغزو الانكلو- أمريكي، بتسويغات ورضا ساسة عراقيين، لم يتغيروا منذ الاحتلال وحتى اليوم، بل يتم تدويرهم، بين الحين والآخر، بمناصب تحت مسميات مختلفة، امتصاصا لنقمة الشعب من جهة وبالتوافق فيما بينهم حسب محاصصة الفساد الطائفي- العرقي – السياسي، من جهة أخرى. كما نلاحظ، حاليا، من سيرورة التظاهرات الشعبية. واذا كان الهجوم الأمريكي على مستشفى الفلوجة عام 2004 قد أثار غضب الكثيرين، من بينهم آلاف المثقفين ومناهضي الحرب في ذات البلدان المساهمة بالغزو، فإن ساسة الحكومة والبرلمان، اختاروا، بانتقائية مذهلة، التعامي عن حقيقة ما جرى ولايزال بالفلوجة متذرعين بوجود ازلام صدام اولا والقاعدة ثانيا وداعش ثالثا. مما منح الميليشيات شرعية حصار واعتقال وقتل الأهالي وتحويل المدينة الوديعة إلى ساحة حرب ودائرة عنف لا يبدو في الافق فكاكا منها، خاصة وان كل مواطن يقتل يترك وراءه، أيتاما وأرامل، لن يكون نصيبهم من فسحة الأمل، مع التشرد وغياب التعليم، واذا لم تتوقف الحرب ويستعيد العراق سيادته، أكبر مما تمتع به. منذ احتلال العراق عام 2003 أمريكيا، ثم انتقاله التدريجي إلى الإحتلال المشترك والمتصادم مع إيران والميليشيات وقوات الدولة الأسلامية، ومدن العراق تدخل، الواحدة بعد الاخرى، فيما مرت به الفلوجة، إذ يعاني الملايين من أهالي ديالى وصلاح الدين ونينوى والانبار جل ما يعانيه الفلوجيون يوميا. في سيرورة خلق ذاكرة أضطهاد وظلم جماعية تقتضي ان نتذكرها لعدة اسباب: وفاء لصمود العراق بمواجهة الغزاة أولا ولكي نتعلم ونفهم ونتجنب ان تكون معاناة اهلها، سواء تحت الاحتلال او الحكومات العراقية بالنيابة، سببا «لمظلومية انتقامية»، يتم نقلها إلى الاجيال المقبلة، ثانيا.