منذ سنوات و»تحرير» مدينة الفلوجة ،التي تحتضن الفرات أو يحتضنها على بعد خمسين كيلومترا شمال غرب بغداد، جار بلا توقف. جيش الاحتلال الأمريكي «حررها» في عام 2004 مرتين، وواصل نوري المالكي «تحريرها» بشتى الطرق على مدى 8 سنوات من حكمه الموسوم بالطائفية والفساد والتبعية. فقد تطور الأمر بعد فض الإعتصامات السلمية التي استمرت طوال 2013 إلى مجازر أمر المالكي بها بالتزامن مع مجزرة الحويجة على دجلة الى الهجوم، والقصف، والتهجير تصعيدا في سلسلة العقاب الجماعي بهم، وأخيرا رميهم بالبراميل المتفجرة. باختصار: حاول الغزاة ووكلاؤهم، في المنطقة الخضراء، ببغداد، كل السبل لتركيع المدينة الباسلة التي وقفت عام 2004 بوجه اكبر قوة عسكرية بالعالم وهجومها « الأشمل منذ حرب فيتنام»، بينما كان ساسة النظام العراقي» صباغو أحذية الغزاة» يستجدون رضاها. أصبحت الفلوجة، على علاتها، رمزا يمثل المقاومة من جهة ووصمة عار المتعاونين مع الغزاة. أيامها، كان « العلماني» اياد علاوي، رئيسا للوزراء، ليبزه، فيما بعد، « أسلامي» حزب الدعوة المدعو نوري المالكي. تعيش الفلوجة، اليوم، لحظاتها، مهددة بالارهاب بأنواعه. بدءا من ارهاب «الحكومة» وانتهاء بارهاب «الدولة الاسلامية» مرورا بمليشيات «الحشد الشعبي»، بالأضافة الى «التحالف الدولي» بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية و»فيلق القدس» بقيادة جمهورية ايران الاسلامية. تتم تهيئة ارضية الهجوم الكاسح ل « تحريرها» اعلاميا وعسكريا. أجهزة الاعلام، تطبل على الايقاع الواحد: «تحرير» الفلوجة من ارهاب داعش. تتوالى التصريحات من «مصادر أمنية وعسكرية» عراقية عن اعدامات ومجازر واغتصاب وبيع للنساء في الفلوجة، فتختلط جرائم النظام بداعش، لتوظف في خدمة النظام وحشده، بدون ان يتمكن أحد من التحقق من صحتها. هل تتذكرون الخبر الملفق عن خطبة امام الفلوجة وقائد المجاهدين التي دعا فيها الى فك بكارة الفتيات قبل ان يقوم جنود الاحتلال الأمريكي بذلك عام 2004 ؟ هل تتذكرون كيف تم تناقل الخبر بسرعة مذهلة لتشويه صورة المقاومة وشيطنتها ووصمها بشكل يستمد طبيعته وقوته من مفهوم الشرف بالنسبة الى المجتمع العربي وحقوق المرأة العربية، مسلوبة الارادة، غربيا ؟ وكيف لقي الخبر رواجا اعلاميا كبيرا بين المنظمات النسوية الغربية؟ وسبب ذكري لهذا الخبر هو اصدار وزارة حقوق الانسان العراقية بيانا (2 تموز/ يوليو) عن بيع نساء سوريات في مدينة الفلوجة، بجوار جامع الفلوجة الكبير، وبأسعار زهيدة. ماهي صحة الخبر؟ وكيف ندققه، كنموذج للاخبار التي يصدرها مسؤولو النظام العراقي والتي غالبا ما يتم نشرها «نقلا عن» ؟ أولا: نفى وجهاء الأنبار، من بينهم الشيخ محمد البجاري ما ورد في تقرير وزارة حقوق الإنسان الأخير حول بيع سبايا سوريات في الفلوجة، متهما الوزارة بأنها جزء من المؤامرة ضد مدينة الفلوجة. ثانيا: ان الجهة المصدرة للخبر وتوقيت اصداره يثيران الشكوك . فوزير حقوق الانسان محمد البياتي، حسب شهادته على موقع الوزارة، عضو في الشورى المركزية ل «منظمة بدر» وأمين عام تنظيمات الشمال. و»منظمة بدر» هي مليشيا تم تأسيسها وتدريبها في ايران، منذ الحرب العراقيةالايرانية في ثمانينيات القرن الماضي، وولاؤها حسب تصريحات رئيسها هادي العامري يعود لايران وفيلقها المقاتل بالعراق. دخلت المنظمة العراق مع قوات الغزو الأمريكي ومارست، منذ عام 2003، جرائم وحملات اغتيال ممنهج، تجعلها الوجه الثاني للارهاب الداعشي. أو بالأحرى الوجه الأول كونها تسبق ظهور داعش بعشرين عام. الفرق بينها وبين داعش هو ان ارهابها «مُشرْعَن» من قبل الحكومة العراقية ومسكوت عليه دوليا، أي حلال، كما هو ارهاب الاحتلال الأمريكي الذي سبب قتل ما يزيد على المليون مواطن، وكما هو ارهاب الأنظمة العراقية المتعاقبة بالوكالة، وكما هو ارهاب «الحشد الشعبي» السائب. وزير حقوق الانسان، اذن، ليس شخصا مستقلا بحكم كونه قياديا في ميليشيا تصول وتجول بالبلد وهو أمين عام تنظيمات الشمال فيها (هل يعرف أحد ماهية هذه التنظيمات وانجازاتها الانسانية؟). فلا عجب ان لم تصدر الوزارة، يوما، بيانا تدين فيه قصف الحكومة لمستشفى الفلوجة 23 مرة ،خلال سبعة اشهر فقط، مسببة مقتل عدد من كوادره ومرضاه. أما رئيس وزير حقوق الانسان في فيلق بدر، هادي العامري، فانه في غنى عن ارتداء لبوس حقوق الانسان، اذ يرى نفسه وميليشياته المدعومة من ايران، اقوى من الحكومة وأحق منها بقيادة البلاد، مما يوفر له حرية اطلاق التصريحات كيفما شاء ومهما كانت ذات مضمون ارهابي ترويعي على غرار قوله (الصباح الجديد، 12 حزيران): «ان عملياتنا المقبلة ستكون في الفلوجة لإنهاء هذه الغدة السرطانية» او دعوته الى تهديم الفلوجة لأنها تمثل «رأس الأفعى» . واذا افترضنا ان ما يعنيه العامري هو تنظيم الدولة الأسلامية، فماهي آلياته و» الحشد الشعبي» وحكومة حيدر العبادي للتخلص من التنظيم و « تحرير « الفلوجة وكسب الدعم الشعبي ؟ الآلية المستخدمة، حتى الآن، هي القصف المدفعي والقصف الجوي بواسطة البراميل الحارقة. منذ مطلع شهر رمضان وقصف الفلوجة بالبراميل الحارقة مستمر بحجة التخلص من داعش . الحصيلة خلال اسبوعين: مقتل 90 مدنيًا وجرح 100 آخرين أغلبهم نساء وأطفال. واجبار الاهالي على النزوح قسرا. قال مصدر طبي في مستشفى الفلوجة العام ( 4 تموز/ يوليو): «استلمنا اليوم، جثث 21 مدنيًا بينهم 7 أطفال و5 نساء و26 جريحا بينهم 11 امرأة و6 أطفال نتيجة القصف العنيف لقوات الجيش بالمدفعية وقذائف الهاون والصواريخ على منازلهم في مناطق متفرقة من الفلوجة». وقتل يوم الأحد 76 مواطنا بغارات للجيش بمروحيات تحمل براميل متفجرة، واستهدفت أحياء سكنية بالفلوجة، بالاضافة الى ساحة ملعب نادي رياضي وسط الرمادي، بعد تجمّع عشرات الشبان، لمشاهدة لعبة المحيبس الشعبية الرمضانية (العربي الجديد – 5 تموز/ يوليو). ان حملات التهجير والقصف والعقاب الجماعي التي تتعرض لها الفلوجة بحجة تحريرها من داعش، لم تبدأ يوم دخول داعش او اي تنظيم آخر مهما كان أسمه، بل بدأ يوم وقفت المدينة باباء لتقاوم الغزاة، مدافعة عن كرامتها وعزة نفسها، يوم أقسم اهلها ان تكون الفلوجة مقبرة للغزاة . منذ ذلك اليوم وشعار «تحرير» الفلوجة، يعني استئصالها وابادة أهلها. فبالاضافة الى منهجية سياسة الأقصاء والعقوبات الجماعية التي مارستها قوات الاحتلال وحكوماته المتعاقبة وممارسات الميليشيات، هاهو اللواء الركن عبد الكريم خلف، المدير السابق لمركز العمليات في وزارة الداخلية، يبرر قتل المدنيين بالفلوجة (مقابلة مع الجزيرة 5 تموز) قائلا «أُنذر السكان فغادرها نصفهم. الباقون اما من داعش أو متضامنون مع التنظيم الارهابي». لاحظوا انه يتحدث عن مدينة يقطنها مائة ألف شخص وتساوي مساحتها مساحة لبنان، فاذا لم تكن هذه السياسة شرعنة للابادة الجماعية وتكريس ارهاب النظام، بشكل علني وعبر أجهزة الأعلام، فلا ادري ماهو معنى الأرهاب! واذا كانت الفلوجة قد دفعت ثمن مواجهتها لارهاب الغزو الأمريكي غاليا، بشرا وبنية تحتية، فان قراءة يوميات مقاومتها على مدى السنوات، يؤشر الى انها لا تنوي قبول الارهاب حلالا كان أم حراما. وهو درس على حكومة العبادي وميليشيات الحشد الشعبي والائتلاف الدولي الايراني استيعابه جيدا. فالقضاء على الارهاب والمصالحة الوطنية لن يتحققا عبر البراميل المتفجرة مهما كانت رطانة الساسة.