أطلقت جمعية السلام للإنماء الاجتماعي مشروعا اجتماعيا يهدف إلى تقديم الرعاية الأولية للأطفال في وضعية صعبة، منهم من جعلت ظروفهم العائلية الشارع مسكنا باردا لهم ومنهم من يعيشون داخل أسر مفككة أو مهمشة أو في فقر مدقع يجعلهم لقمة سهلة الوقوع في شرك التشرد، هذا المشروع الاجتماعي الذي تدعمه منظمة إغاثة دولية انطلق في ماي الماضي وحط مؤطروه الرحال في مدن سطاتوالدارالبيضاءوالرباط وأخيرا مدينة تمارة. على مدار ثلاثة أيام جال أربعة شباب متطوعين مدينة تمارة على متن الوحدة المتنقلة للرعاية الأولية للأطفال في وضعية صعبة وهي عبارة عن شاحنة مجهزة تحت الطلب لتتناسب مع أهداف هذا المشروع الاجتماعي، أربعة شباب استهوتهم روح المغامرة وقرروا دخول عالم مليء بالمآسي والحكايات الإنسانية الصعبة والمأساوية، يتواصلون مع الأطفال والأسر التي تعيش في وضعية اجتماعية صعبة ويستمعون إلى واقع مغربي مسكوت عنه ضحاياه أطفال كان قدرهم أن يكبروا قبل الأوان. قصة مؤلمة جلست "نسرين" فتاة في 16 من عمرها أمام "أمين بنسعايدي" شاب متطوع في هذه الحملة يدرس في ماستر الخدمة الاجتماعية بكلية علوم التربية، كانت تتحدث وهي تنظر إلى أسفل، وتحرك أصابعها بقلق، تحكي لأمين قصتها مع الحياة بتوتر كبير. فتحت "نسرين" عينيها على وجه جدتها، كانت تناديها ب"أمي" رغم أنها تدرك أن هذه المرأة العجوز المقيمة بدوار الشياحنة نواحي الرباط ليست أمها الحقيقية بل هي جدتها بينما أمها امرأة أخرى تزورها بين الفينة والأخرى، تقول "نسرين" في كلامها المتقطع أن والدتها انفصلت عن والدها وتزوجت برجل آخر أنجبت منه أطفالا آخرين، أما هي فقد ظلت مع جدتها ترعاها وتعتني بها ومؤخرا انتقلت للسكن مع خالتها بمدينة تمارة لتساعدها على رعاية أبنائها الخمسة والاهتمام بشؤون البيت بينما هي تعمل بعدما دخل زوجها السجن. توقفت "نسرين" عن الدراسة في المستوى السادس ابتدائي، فهذه الفتاة التي ولدت من زواج شرعي لا تتوفر على الحالة المدنية بعد أن هجرها والدها، ما لم يمكنها من استكمال مسارها الدراسي لتجلس في البيت وتتفرغ لرعاية جدها العاجز وتلبية طلباته. يتبادل "أمين" الذي يعتبر في هذا المشروع بمثابة "مربي خارجي" لكونه يخرج إلى الشارع ليلتقي الأطفال المهمشين ويستمع إليهم، (يتبادل) أطراف الحديث مع "نسرين"، يحاول سبر أغوار هذا العقل الصغير لمعرفة أحلام وطموحات هذه الفتاة، ما تفكر فيه، وما تخطط له، وما تشعر به، بعض الأسئلة بدت غريبة بالنسبة لنسرين فعندما سألها المربي الخارجي عن ما تفكر فيه بشأن مستقبلها، هزت كتفيها دون جواب، لكنها بعد تفكير وتردد قالت إنها ترغب في تعلم الخياطة وتسوية وضعيتها القانونية، وأضافت "إذا تعلمت الخياطة واشتغلت، أول شخص أفكر في مساعدته هما خالتي وجدتي، فأنا لا أعرف في هذه الحياة أحدا غيرهما". "نسرين" لا تتحدث عن والدها فهو غير موجود في يومياتها ولا في ذكرياتها ولا تستحضره حتى في مستقبلها، فهي كما تقول لم تعرفه يوما ولم تره. ورغم أنه يسكن غير بعيد عنها، إلا أنه لا يسأل عنها ولا يهتم لأمرها بعد أن تزوج وأنجب أطفالا آخرين. المربي المتطوع "أمين" يدخل في حديث هادئ مع الأطفال حول هويتهم وحياتهم، يحاول استدراجهم بكل سلاسة للحديث عن الماضي والحاضر ويطرح أسئلة عن المستقبل. يقول أمين ليومية "التجديد" إنه يطرح أسئلة مختلفة على الأطفال ويحاول توجيههم إلى أفكار قد لا تكون داهمتهم يوما، ويستغربون منها، مثلا عندما يحدثهم عن ما يتوقعونه بشأن مستقبلهم لا يجد لديهم الجواب، فهم لم يفكرو ولم يحلمو كباقي أقرانهم عن مستقبلهم عن وضعهم بعد 20 أو 30 سنة، ماذا سيصبحون وكيف يعيشون؟ يوضح أمين أن "مثل هذه الأسئلة وهذا الحديث يخلخل عقل هؤلاء الأطفال ويجعلهم يفكرون في تغيير وضعهم في أفق العيش الكريم مستقبلا، بعضهم قد يطلب إيداعه في دار رعاية والبعض الآخر قد يطلب إعادته للمدرسة فيما قد يطلب آخرون مساعدتهم على تعلم حرفة، نحن نحاول توجيههم بالتنسيق مع المساعدة الاجتماعية في مؤسسة التعاون الوطني". تهديد الشارع "بدر الدين" طفل في الثانية عشر ربيعا جاء إلى الوحدة رفقة جدته العجوز، يبدو المرض عليها، قصة هذا الطفل مختلفة فهو ولد بعد علاقة غير شرعية بين أمه التي تعمل حارسة للسيارات ووالده المجهول، جدته المتسولة هي التي تهتم به وترعاه حاليا، جاءت به إلى الوحدة المتنقلة لتطلب المساعدة في أمر يشغل بالها هذه الأيام، فهذا الطفل الذي يدرس في السنة الخامسة ابتدائي سيكون مهددا بتوقف مساره التعليمي بعدما سيتعذر عليه اجتياز امتحان السادس ابتدائي الجهوي بسبب عدم توفره على الأوراق التي تثبت هويته، خلال حديثه مع الطفل وجدته، يملأ المربي "أمين" عددا من الأوراق يدون فيها المعلومات حول وضع بدر الدين الاجتماعي والنفسي والعائلي من أجل تحديد طريقة للتدخل في هذه الحالة. من حي النصر بالمدينة جاءت سيدة تبدو في الأربعينيات من عمرها، وبرفقتها طفليها المتمدرسين، بعد وفاة زوجها تغيرت حياتها وأصبحت مهددة بالشارع، فقد تراكمت أقساط المنزل الذي اشتراه زوجها بالقرض وأصبحت مهددة بالإفراغ لعدم قدرتها على سداد الديون، تحكي المرأة قصتها لمربي الوحدة وهي حائرة لا تدري ماذا تفعل خاصة وأنها لا تتوفر على أية مهارات أو حرفة تجعلها تكسب قوتها، وحتى إذا خرجت للعمل فلمن ستترك أبناءها خاصة وأن لديها طفلا في سنته الثانية. يشرح أمين وضعية هذه المرأة ودور الوحدة المتنقلة في مساعدتها فيقول "هذه السيدة في وضعية قد تغير مستقبل أولادها إن هي طردت من منزلها، لن تجد أمامها وأمام أطفالها سوى الشارع لذلك فدور الوحدة هو مساعدة هذه الأسر ووقايتها من الشارع وذلك عبر تقديم حلول تحميها من المستقبل المجهول". أوضاع معقدة يقول "أمين بنسعايدي" إن القصص في مدينة تمارة مختلفة، ففي هذه المدينة لم يعثروا خلال ثلاثة أيام وهي مدة الحملة على أطفال يعيشون في الشارع، بل إن الأطفال الذين استمعوا إليهم يعيشون أوضاعا اجتماعية معقدة قد تؤدي بهم في النهاية إلى التوقف عن الدراسة واللجوء إلى الشارع، ويضيف أن الدور الأساسي للوحدة هو العمل الوقائي أي تقديم بعض المساعدة لهؤلاء الأطفال ولذويهم حتى لا يكون الشارع مصيرهم. في مدن أخرى مثل الدارالبيضاءوسطات يشير أمين إلى أنهم التقوا بعدد من الحالات المأساوية لأطفال يقضون ليلهم في البيوت الخربة ونهارهم في التسول أو بيع المناديل أو مسح السيارات وغير ذلك من المهن الهامشية، بعض هؤلاء كما يشرح "أمين" تم إدماجهم في مؤسسات للرعاية الاجتماعية بالتنسيق مع جمعيات محلية تنشط في هذا المجال أو مع مؤسسة التعاون الوطني، وبعضهم وخاصة ممن تجاوزت أعمارهم ال14 يرفضون الإدماج ويفضلون البقاء في الشارع. يؤكد "أمين" أن المربي ينبغي أن يكون محايدا حتى يصمد أمام القصص الصادمة لأطفال انتزعت براءتهم وكبروا قبل الأوان، ويضيف أن التكوين الذي تلقاه بالإضافة إلى تكوينه الدراسي مكنه من وضع أسوار بينه وبين الحالات حتى يستمر في العطاء، وإلا فإن كل قصة كفيلة بجره إلى حالة من الاكتئاب خاصة عندما يستمع لأطفال تعرضوا لاعتداءات جنسية وللإهمال ولفتيات تعرضن للاغتصاب في مقتبل العمر وأصبحن أمهات وهن بعد طفلات. طرق الاستهداف "خديجة باحمو" مربية ضمن الفريق تلقت إلى جانب زملائها تكوينا مكثفا حول كيفية التعامل مع هذه الحالات، تقول إن الوحدة تم بناؤها لتناسب أهداف المشروع، فهي تتضمن طاولة يتم فيها استقبال الأطفال وذويهم والاستماع إليهم كما تتضمن خزانات تحتوي على الملابس والأحذية التي توزع على المستفيدين من خدمات الوحدة، إلى جانب حمام مجهز بماء ساخن، يغتسل فيه الأطفال قبل أن يرتدوا ملابسهم الجديدة، كما تتضمن الوحدة ثلاجة فيها عدد من المأكولات التي تعدها نساء الجمعية لفائدة هؤلاء الأطفال. كما يستفيد الأطفال من خدمات الفحص الطبي، إذ يتم تخصيص أحد أيام الحملة لهذا الغرض وذلك بعد تحديد الأطفال الذي يحتاجون إلى معاينة طبية، ويتم تحديد طريقة للتواصل معهم، وفي مكان وزمان معينين، تأتي طبيبة إلى الوحدة وتفحص الأطفال وتصف لهم الأدوية اللازمة، وتقوم إدارة المشروع بتوفيرها للأطفال المرضى. لكن كيف يتواصل مربو الوحدة المتنقلة مع المستفيدين من خدماتها؟ يشرح "أمين" أنهم يقومون في أول أيام الحملة في أي مدينة بمسح يشمل أهم النقط التي يوجد فيها أطفال الشوارع، بالتنسيق مع جمعية محلية تعمل في المجال في المدن الكبرى أو بالاعتماد على أنفسهم في المدن الصغيرة، قد يكون هؤلاء المستهدفون يبيعون السجائر أو يبيعون المناديل الورقية أو غير ذلك، فهم يستطيعون تمييزهم بفضل التكوين الذي تلقوه داخل الجمعية في إطار هذا المشروع. وتضيف "خديجة" أنهم في البداية يحاولون كسب ثقة الطفل حتى لا يهرب منهم وحتى يفتح قلبه ويتحدث عن ظروفه الإجتماعية ويرافقهم بإرادته إلى الوحدة للاستفادة من الخدمات الأولية التي تقدمها ولمتابعة وضعيته بعد تقديم مقترحاتهم لإنقاذه من الوقوع في براثين الشارع. بداية الطريق! يعرف "عبد الله إبوتان" وهو مدير مشروع الوحدة المتنقلة للرعاية الأولية "الطفل في وضعية شارع" بأنه كل طفل يقضي معظم وقته اليومي في الشارع بدون مرافقة أو أية حماية أو رعاية فهو متروك لذاته في الشارع. قد يكون للطفل أبوان أو قد يكون يتيما من جهة أحدهما ويسمى مع ذلك طفلا في وضعية شارع لأن بعض الآباء يرسلون أطفالهم إلى الشارع للتسول أو لبيع بعض الأشياء، ويضيف "إبوتان" أنهم خلال الحملات السابقة وقفوا على عدد من الحالات لأطفال ممدرسين يخرجون في العطلة وبعد الدوام المدرسي إلى الشارع للتسول أو العمل لأن أسرتهم تشترط عليهم الدخول إلى المنزل وبحوزتهم مبلغ مالي محدد ويقول "في مدينة سطات وجدنا حالات لأطفال قالوا لنا إنهم إذا لم يرجعو إلى المنزل ومعهم مبلغ 20 درهما فلا يمكنهم العودة إلى البيت وسيضطرون للمبيت في الشارع"، مثل هؤلاء الأطفال يستفيدون من خدمات المشروع ومن الفحص الطبي خاصة وأن بعضهم يعانون من بعض الأمراض ولا تأخذهم أسرهم أو من يأويهم للطبيب. يشير "إبوتان" إلى أن المشروع يركز بالدرجة الأولى على الأطفال في سن صغيرة وحديثي عهد بالشارع "كلما طالت مدة إقامة الطفل في الشارع يتعود على الوضع ويتأقلم عليه وتصبح عودته إلى بيته أو اندماجه في مؤسسة اجتماعية أمرا صعبا، فبعضهم أصبح يعيش داخل مجموعات منظمة لها قوانينها الخاصة وقواعدها، يبيتون في منازل خربة ويحمون بعضهم البعض"، يشرح مدير المشروع. يقول "إبوتان" إن دور الوحدة هو استقبال الأطفال والاستماع إليهم لمعرفة الأوضاع الاجتماعية وتسجيل كل ذلك في استمارة خاصة، وبعد ذلك تقدم لهم عدة خدمات من قبيل النظافة والحلاقة والملابس والأكل إلى جانب بعض العلاجات الأولية بالنسبة للبعض، والفحص الطبي لآخرين ثم يتم تصنيف ملفاتهم حسب وضعية كل واحد وحاجاته. "في هذه المرحلة يتوقف عملنا لتليها مرحلة المتابعة وهي المرحلة المهمة في نظرنا، فبعض الحالات تحتاج إلى تدخل لدى الأسرة ليعود الطفل إلى منزله والبعض يطلب العودة إلى المدرسة والبعض يطلب الدخول إلى مؤسسات اجتماعية، في هذه المرحلة ننسق مع المساعدة الاجتماعية في التعاون الوطني ونقوم بمتابعة كل حالة على حدة"، يقول إبوتان مؤكدا على أن هذه المرحلة هي الأصعب لأنها تتطلب وقتا طويلا وعددا من الإجراءات والاتصالات خاصة بالنسبة للأطفال الذين لا يتوفرون على وثائق ثبوتية إذ يصعب إعادتهم إلى المدرسة. يقول "إبوتان" إن المشروع الذي انطلق في ماي المنصرم، غطى مدن سطاتوالبيضاءوالرباط ثم تمارة ويوجد برنامج آخر يهم سيدي قاسم والقنيطرة وسلا وسيدي سليمان، كل هذه الحملات -حسب المتحدث- تكون بالتنسيق مع التعاون الوطني لأنه يتوفر على مراكز الرعاية الاجتماعية ولديه أفراد متخصصون وخبراء في هذا المجال. ويضيف المتحدث "نحن واعون بأن ما نقوم به عمل أولي يستلزم منا التطوير حتى يؤدي النتيجة المبتغاة لأن شعارنا رعاية كرامة ادماج، فنحن نحاول تقديم الرعاية الاجتماعية لأن بها نحفظ كرامة الأطفال وأفق هذا العمل إعادة إدماج هؤلاء الأطفال في وضع اجتماعي سليم"، لذلك تفكر جمعية السلام في المضي قدما في هذا التوجه والعمل على إنشاء مركز للإستقبال الأولي للأطفال المحتاجين للحماية الفورية. ويشرح "إبوتان" هذا الأمر بقوله "نحن في حاجة إلى مراكز تأوي الطفل في أول خروجه إلى الشارع، لتحميه قبل أن يصبح مدمنا و قبل أن يتعرض لأي شكل من أشكال العنف وقبل ان يتعود على العيش في الشارع"، وأضاف "العمل مع هؤلاء الأطفال فيه ثلاث مستويات فهناك أطفال مرشحين ليكونوا أطفال شوارع نتيجة التفكك الاسري والفقر فهؤلاء يحتاجون منا عملا وقائيا حتى لا يصلوا إلى وضعية الشارع ثم هناك المعالجة التي تهم الأطفال الذين يعيشون في الشارع ويحتاجون الى علاج اجتماعي ليعودوا الى العيش في وضع طبيعي إما أسري أو داخل مؤسسات اجتماعية ثم هناك الحلقة الثالثة وهي الحماية أن نحمي المرشحين أو الموجودين في الشارع من حالة العود أي العودة الى الشارع"، لذلك يؤكد على اهمية إنشاء مراكز الرعاية الأولية التي تستقبل جميع هذه الحالات ثم تقوم بتوجيهها إلى المؤسسات المناسبة لها.