صورة مأساة ومعانات وضياع، تنسجها خيوط مشاكل وتجاوزات أسرية، بألوان القمع والجهل والفقر، أطفال وشباب يصارعون الواقع، سلاحهم التسول وبعض المخدرات الحقيرة، يفرشون الأرض ويلتحفون السماء، وينتظرون المساعدة كما ينتظر الضمان في الصحاري ما يجلبه الإناء من قعر البئر. منهم من حضي برعاية مراكز إيواء الطفولة المشردة واستقام حاله، ومنهم من ينتظر، وتتشابك الخيوط لتنسج نوعا أخر من الضياع، أطفال عاشوا الى جنب آبائهم في السجن ويغادرونه محملين بأصناف الحقد والحرمان. فلماذا هذه الظاهرة؟، وما أسبابها و مسبباتها؟، وهل من برامج في ظل المغرب الجديد للقضاء على هذه الظاهرة؟، أسئلة كثيرة قد نجد أجوبتها في دراسة بعض الحالات، ونعرضها بكل ما فيها من خيوط محزنة.
الطفولة المشردة … فئة في عالم منسي في مدينة أكادير، عاصمة الشمس والبحر، يوجد أطفال وشباب بوجوه بائسة متسخة، وملابس بالية، وتمتمة بكلمات غير مفهومة، تعبر عن اعتراض ورفض للعالم كله، استعطاف واستجداء بهدف الوصول الى صدقة قليلة، وأظافر طويلة تجمع من الأوساخ ما جادت به سنوات الضياع، وتقاسيم وجوه تختزل قصصا وحكايات وتجارب، تحمل من الماسي والظلم والإقصاء ما تلخصه عبارات “أطفال الشوارع” أو”الأطفال المتشردين، وسط هذه االمدينة السياحية أصبحت هذه الظاهرة من الأشياء التي اعتادت عليها ساكنتها من مغاربة وزوار أجانب، تجد أطفال وشباب في مواقف السيارات، قرب المطاعم وعلى الأرصفة، لا ملجأ لهم، لا مسكن، يتخذون بعض الأماكن المهجورة مكانا للمبيت، مفترشين الأرض وملتحفين السماء. تستدعي ظاهرة التشرد والتسكع، مع تزايدها واستفحالها، مقاربة شخصية ودقيقة وتقييم عام، لوضع الضماد مكان الداء، وملامسة المعضلة، وتحديد الدوافع والمبررات، والأسباب والمسببات المتشابكة، التي دفعت هؤلاء المشردين إلى العيش في الهامش، والضياع في الزمان والمكان، لا مأوى، لا بيت، لا عمل ولا مستقبل … مع عدم وجود استقرار نفسي ومكاني، والعيش في ظلمات يكون من خلالها المتشرد في حالة جحيم وعذاب وتهميش، وضحية إقصاء، مما يجعله يقتل ذاته وفكره تدريجيا بالمخدرات والسموم المدمرة. أسباب ومسببات الظاهرة. تتعدد الأسباب بتعدد الحالات وتنوعها، لكنها تتقاطع لتشكل خليطا يجمع بين مشاكل نفسية وعائلية، اجتماعية وتربوية، تتفاعل فيما بينها لتفرز هذه الطفولة المقهورة والهامشية، والمعذبة في الأرض، طفولة متشردة، متسولون ومختلون عقليا، وأصبحنا نجد أسرا بأكملها مشردة تمتهن التسول، بجنب الطرق والحدائق ومحطات المسافرين، وضعيات اجتماعية مختلفة وتشرد في كل مكان، أطفال اختاروا حياة خاصة بعيدا عن الأسرة والمجتمع، وضعية مؤلمة تدعوا الى الرأفة والرحمة، صورة تختزل مأساة حقيقية وتدفع إلى التساؤل عن مصير هؤلاء المشردين داخل المجتمع، بعد أن نشئوا خارج حماية الأسرة وحرموا من الطفولة ومن أبسط الحقوق كالتعليم وحضن العائلة. ومن أهم الأسباب كذلك، المعاملة السيئة التي يتلقاها بعض الأطفال على يد الوالدين، والتي تطبعها القسوة والتعصب والعنف، إضافة الى الفقر وقلة الحيلة لتوفير احتياجات الأبناء ما يدفعهم لمغادرة المنزل، لاهثين وراء أحلام اليقظة، لكن أغلب الأطفال في وضعية الشارع، هم أطفال بلا هوية ويتامى فقدوا أحد الأبوين أوكلاهما وحرمانهم من الحب الأسري دفعهم للجوء الى عالم المخدرات والكحول، ثم الشارع بما يحمله من تشرد وتسول وضياع. حكايات من عين المكان في بادئ الأمر قصدنا الشارع لإثارة الموضوع والوقوف عند بعض العينات، كان التردد والخوف والفرار أحيانا، هو الرد السريع لهذه الفئة، بفعل الخوف والأحداث الصعبة التي يعيشونها وقانون الشارع، تقول” رقية” ذات الثلاثين ربيعا أنها متزوجة وأم لطفلين، كانت بدايتها في أسرة فقيرة تعاني من قسوة الحياة، ما دفعها إلى الزواج في عمر مبكرة من أول من تقدم لخطبتها، وتفاجأت بزوج مدمن، فتحولت حياتها حسب ما حكاياتها من الفقر إلى الجحيم، ما جعلها تتحمل مسؤولية الزوج والأبناء، وأدخل التشرد من بابه الواسع، حيت تقضي اليوم كاملا وأبنائها تحت أشعة الشمس الحارقة، همها الوحيد بيع أكبر كمية من المناديل الورقية لتلبي حاجيات زوجها والحيلولة دون الضرب والعقاب. وحسن من الصويرة، عمره تسعة عشرة سنة، الفقر بعد وفات الأب، وانحراف الأخ الأكبر، جعله يسلك طريق “الشيفون والسلسيون” كما يسميه، فقد الأمل في النجاة بعد الإدمان على المخدرات، واحترف السرقة كمصدر للمال، فأصبحت حياته بين السجن والشارع يكسر روتينها بزيارة قبر أمه وأبيه اللذان يفتقدهما كما يقول. مبادرات للحد من الظاهرة تعتبر “وحدة حماية وإدماج الأطفال في وضعية الشارع” خدمة اجتماعية استعجالية متنقلة لفائدة فئة الأطفال في وضعية الشارع، مبدؤها المبادرة في التحرك واتجاه لهاته الفئات من الأطفال، مع توفير خدمات متعددة تختلف بين ما هو صحي علاجي، أواجتماعي أو توجيهي، في احترام تام للمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقعها المغرب، وبتنسيق تام مع كل السلطات المعنية بما فيها الشرطة والقضاء، وتتميز هذه الوحدة باعتبارها خدمة جديدة تهدف بالدرجة الأولى الوقاية من المخاطر وحماية الأطفال من مختلف أنواع العنف والإقصاء، ورغم كون الوحدة ليست وحدة للإيواء، فإنها توفر أساسا، الإستقبال والغستماع والدعم. معطيات حول الظاهرة أضحت ظاهرة الأطفال في وضعية الشارع بالمغرب من الظواهر التي تثير قلق المجتمع المدني والسلطات العمومية خلال السنوات الأخيرة، خصوصا أمام تناميها وازدياد عدد الأطفال بشوارع المدن المغربية الكبرى يوما بعد يوم، اختلفت المعطيات حول أعدادهم بين واقعي يحددهم في عشرات الآلاف وبين متفائل يختزل هذا الرقم في بضعة آلاف، غير أن الاثنين لا يختلفان في كون العدد في تزايد مضطرد يلاحظه الشخص العادي قبل المتخصص، فمثلا بين الإحصاء الذي تقدم به الدكتور “مبارك ربيع”، أستاذ مادة علم النفس بكلية الآداب بالرباط، ورئيس جمعية علم النفس المغربية، وعضو جمعيات حماية الطفولة، وفي ورقته المقدمة إلى اجتماع الخبراء الذي نظّمه المجلس العربي للطفولة والتنمية لمناقشة موضوع التشرد سنة 2000 قال بأن عددهم يبلغ 000 237 طفل، وبالمقابل هناك وثيقة أخرى صادرة عن الوزارة المعنية بقطاع الطفولة والأسرة تحدد عددهم في 14000 طفل في المغرب كله، والفرق كما يلاحظ شاسع بين الرقمين. وقد أفادت بعض الدراسات الصادرة سنة 2002 والتي شملت عينة تتكون من 711 طفلا مشردا، تبين بأن التسول يأتي في مقدمة الأعمال التي يزاولها هؤلاء الأطفال بنسبة 18%، ليأتي بعدها مسح الأحذية، وبيع الأكياس البلاستيكية (15 %)، وغسل السيارات (13 %)، ثم السرقة (6 %)، كما أفادت الوزارة المهتمة بقطاع الطفولة والأسرة أن 15% من الأطفال المتسولين مادون 12 سنة يتم اكتراؤهم من أسرهم لهذه الغاية ( التسول). تصريحات المسؤولين في تصريح له يقول “هشام الدبوغ”، مدير مركز حماية الطفولة ذكور، أن المركز يعنى بحماية الأطفال في وضعية صعبة بعد إحالتهم على محاكم الجهة، خصوصا محكمة أكادير وإنزكان، والذين تتراوح أعمارهم من 12 سنة الى 18 سنة، لكن قلة عدد المراكز، يدفعنا لإدماج أطفال تتراوح أعمارهم من أربعة إلى 17 سنة من أصحاب الخلافات القانونية أو الأطفال المتخلى عنهم، ويؤكد مدير المركز أنه من جهته لابد للاستماع لهؤلاء الأطفال وتأطيرهم ضمن البرنامج المعتمد داخل المركز للتكوين والتأهيل مع توفير أجواء لتعويض النقص بعد حرمانهم من الدفء والرعاية الأسرية. هو الآخر فؤاد وعليم” مركز حماية الطفولة فتيات، ومنسق الوحدة المتنقلة لمساعة وإسعاف الأطفال في وضعية صعبة يقول، أن هذه المؤسسة تابعة لوزارة الشبيبة والرياضة بشراكة مع مؤسسة محمد السادس ومؤسسة الجنوب والتضامن والتكوين المهني، تستقبل المؤسسة فتيات في وضعية صعبة أو فتيات في نزاع مع القانون، حقيقة يقول ذات المتحدث، أنه يتواجد لدينا فتيات في سن 16 يلتحقن بالمؤسسة من طرف قاضي الأحداث وهن فتيات تعانين مشاكل أخلاقية اجتماعية نفسية، تهدد سلامتهن وتؤدي بهن إلى الجنوح أو الإنحرافن لهذا يتم إحالتهن لقاضي الأحداث لدى مختلف المحاكم، في حين تتكلف المؤسسة بتحمل مسؤولية الفتيات سواء تعلق الأمر بالإيواء أوالتغذية أوالتمدرس أوالتكوين المهني. ويصرح كذلك أن مركز حماية الطفولة يحتوي على شريحتين، الأولى اقل من 14 سنة، الخيار الوحيد هوالتمدرس ويتوفر المركز اليوم على 38 فتاة، تستفيد من المؤسسة التعليمية، والفئة الثانية التي تفوق 14 سنة فإنها تستفيد من التكوين المهني الذي ينقسم الى أربعة اختصاصات كلا حسب توجهها، ويتلقين تكوين لمدة سنة أوسنتين وبعد ذلك يقمن بتدريب في أحد المؤسسات أو الشركات، لمنحهن في نهاية الأمر دبلوم يؤهلهن لولوج عالم الشغل.، وأفاد أن 80 في المئة من أطفال الشارع مهددين بالتشرد، لكن نجد الفتيات أكثر تأثرا بالمقارنة مع الذكور، لكون الأنثى مهددة لأن تصبح أما عازية في حالة عدم تدخل المؤسسة المعنية لمساعدتها. طفولة في السجن “مراد” 12 سنة، قضى في السجن ثلاث سنوات مع أمه، بتهمة تجارة المخدرات والفساد، وعندما بلغ من العمر ما يؤهله لدخول المركز، وبحكم من القاضي، تمكن من الإنضمام لمركز حماية الطفولة بحي “تليلا” مدينة أكادير، عاش فترات رهيبة بين القضبان، يرى “مراد” كل نساء العالم من خلال أمه بصورة سلبية، حيث يتمنى مكوثها في السجن إلى الأبد، ويرفض رفضا قطعيا التحاور مع كل جنس أنثى كعقدة يصعب فكها بسهولة، رغم مجهود المربيات والمساعدات الإجتماعيات. من الفقر الى التشرد والسرقة أمين 14 سنة، كان يدرس في الصف الرابع الإبتدائي حينما فر من الدراسة والمنزل والفقر وضيق الحال ليعيش أربع سنوات بالشارع، ويستسلم للسرقة وبذلك أصبح دخوله السجن وخروجه منه أمرا مألوفا لديه، ويقول لا مكان ولا ماؤى بهذا العالم، بالنهار نتسول للحصول على دريهمات لندفعها لكبار المتشردين للحصول على مبيت بالليل في حديقة “علي بابا”. تهميش وإقصاء بسبب اليتم والفقر عبد العالي 15 سنة، قال أنة توفي والديه مند طفولته وتبنته خالته لمدة، ولظروف الفقر لم تتحمله وأصرت على خروجه من المدرسة ويبحث عن عمل، يقول بأنه بعد مشقة وعناء اشتغلت لدى “اسكافي”، وبعد مدة طرده بعد اكتشافه أنه يقوم بسرقه، وطردته الخالة أيضا، ليجد نفسه في الشارع، ومن ثم أصبح مدمنا على المخدرات و”السيلسيون” واتخذ الشارع مأوى له، والمتشردين أصدقائه، لكن بفضل الوحدة المتنقلة استطاع عبد العالي أن يستعيد حياته تحت إشراف مربين ومأطرين بمركز حماية الطفولة ذكور بأكادير. الحكاية من البداية… هند “اسم مستعار” ثلاثة 13 سنة، ابنة من علاقة غير شرعية، وبدافع الخوف والتخلف سلمتها أمها لسيدة لتتكفل برعايتها وتربيتها، عوضتها حنان الأم رغم الفقر، لكن دفاع الأم عن طفلتها جعلها تقتل من كان يهم باغتصاب طفلتها، ودخلت السجن، لتنتهي هند في أحضان مربيات مركز حماية الطفولة حيث استطاعت أن تندمج في المجتمع رغم حالتها النفسية المضطربة، وأن تتفوق في دراستها. من التشرد والتسول الى التغيير ثم العمل سعيد موظف بإحدى المؤسسات العمومية، استطاع النجاح بالاندماج داخل النسيج الاجتماعي، بعد فترة طويلة من التشرد والإدمان، ومرورا بمساعدة وعطف إنسان ثم تاطير وتكوين في مجال الإعلاميات بفضل مبادرة التنمية البشرية ومتابعة ناجحة لمركز الإيواء ب “تليلا”، تمكن من خلالها “سعيد” ولوج عالم الشغل، ليرسم صورة لمواطن صالح تنطق لتقول بحكمة أن سفينة التشرد والضياع تحمل فعلا موهوبين في صدورهم غد مفعم بالأمل والغموض تحتاج إلى من يقودها لترسو على بر الأمان. المشاريع والأفاق المستقبلية تصرح “سلوى بنكيران”، رئيسة قسم الأعمال الإجتماعية بولاية أكادير، أنه بعد برنامج محاربة الهشاشة والتهميش ومحاربة الفقر، والبرنامج الأفقي، وبرنامج محاربة الإقصاء الاجتماعي بالوسط الحضري لفترة 2005-2011، فإن الفترة 2011- 2015 تحمل 53 مشروع بتكلفة إجمالية أكثر من 36 مليون درهم، كما كانت المساهمة أكثر من 17 مليون درهم، وعدد المستفيدين 34156 مستفيد، ووصفت “سلوى بنكيران” برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بالطموح، لكونه يهدف لتوسيع قائمة المستفيدين، كما أن هناك برامج آخر في نفس الإطار موجهة لساكنة المناطق النائية والصعبة الولوج وبرنامج التأهيل الترابي. إن ظاهرة بهذا الحجم تحتاج الى بحوث ميدانية مكثفة، قصد إفراغها وفرزها وتحليلها ثم استخلاص نتائجها، لتحديد الدوافع والأسباب، لأن الوضعية مؤلمة حقا، تحتاج الى جرأة سياسية وتدخلا قويا من طرف المجتمع المدني بكل مكوناته، قصد معالجة مشكلة التشرد من جذورها بصفة نهائية، وإعطاء الأهمية للطفولة المشردة لتقويض المشكل وحصره والحد من مظاهر خلله، كتشجيع التبني وخلق مبادرات أخرى هذه المرة من باب التنمية الأسرية، لقطع حبل التخلف والفقر والنزاع والفساد الأسري، الذي يجعل أبناءنا لقمة في فم وحش التشرد.