لا يحتاج المرء إلى كثير من التركيز كي يدرك حجم الهجمة العاتية التي تتعرض لها المقاومة العراقية، أو لنقل برنامج المقاومة في العراق. وبالطبع فإن دوافع الهجمة تندرج في إطارين اثنين؛ أولهما ذو صلة بالحساسية التقليدية حيال هويتها الظاهرة وهي الهوية الإسلامية التي لا يغير من حقيقتها إصرار بعض البعثيين على أنها مقاومتهم بدعوى أن عناصر الجيش والاستخبارات والحرس الوطني يشاركون بفاعلية فيها، وهو مشاركة لا ينكرها أحد، لكنها تتم في واقع الحال على أسس إسلامية جهادية. أما الإطار الثاني فيتصل بالانحياز للبرنامج الأميركي في المنطقة والرفض العام لكل أشكال مقاومته، بما في ذلك في فلسطين. ويبقى أن ثمة من يقف ضد المقاومة لذات السبب الأول، وإن تم على أسس طائفية مذهبية، على اعتبار أن معظم القوى والنخب السياسية في الطرف الإسلامي الآخر (الشيعي طبعاً) لا زالت تميل إلى خيار المراهنة على التعاون مع الاحتلال. ونقول القوى والرموز، وليس الشارع العام الذي يبدي تعاطفاً مع من يقاومون، سيما من ذات الطائفة، كما هو الحال مع التيار الصدري. في سياق الهجمة المشار إليها نعثر على كثير من الفذلكة والتدليس، بل والتزوير أحياناً، لكن ذلك لا يمنع من مناقشة الحجج المطروحة في سياق الدفاع عن مقاومة لا زلنا نعتقد أنها تدافع عن العراق والعراقيين، في ذات الوقت الذي تدافع فيه عن الأمة المستهدفة بالهجمة الأميركية، وهي قضية لم تعد تعني النخب المشار إليها، ولذلك تراهم يرددون تلك المقولة الساخرة حول قتالنا نحن دعاة المقاومة حتى آخر فلسطيني في فلسطين وآخر عراقي في العراق، وربما إذا امتدت الهجمة إلى قطر عربي آخر فسيهجوننا بوصفنا نسعى إلى المقاومة حتى آخر مواطن في ذلك البلد، في تجاهل مفضوح لطبيعة الإنسان في بلادنا وأمتنا، ذلك المسكون بأحاسيس الكرامة والانحياز إلى هموم أمته، وإلا فأي موقف يتوقعه هؤلاء من شباب الأمة لو فتح الباب أمامهم للجهاد في فلسطين والعراق، وهم الذين ذهب بعضهم إلى أقاصي الأرض نصرة لما يرى أنه الحق؟ في الآونة الخيرة جرى التركيز في سياق الهجمة على طبيعة المقاومة وعملياتها وأهدافها، وكانت عمليات الخطف واستهداف الشرطة هي الجانب الأبرز في خطاب الهجاء. بل إن هناك من جزم بأن المقاومة هي في جوهرها قتل للعراقيين وليس مقاومة للاحتلال. في هذا السياق لا بد أن نذكر هؤلاء القوم ببعض الأرقام التي يقدمها لنا المحتلون أنفسهم، ومثال ذلك أن عدد العمليات في شهر آب/ أغسطس الماضي قد كان 2700 عملية، فيما شهد شهر أيلول/ سبتمبر 2300 عملية، أما الشهور السابقة فقد تراوح الرقم خلالها ما بين 700 و1000 عملية في الشهر وأحياناً اكثر من ذلك، ما يعني أن الرقم قد وصل حدود العشرين ألف عملية لم تؤد حسب دعاوى المحتلين سوى إلى مقتل ما يزيد بقليل عن الألف قتيل، إضافة إلى حوالي ثمانية آلاف جريح ليس إلا، وهي بالطبع أرقام لا يصدقها العقل، سيما تلك المتعلقة بأعداد الجرحى، اللهم إلا إذا كان المعدل هو سقوط جريح واحد في كل ثلاث عمليات وقتيل واحد في كل عشرين عملية. ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى ما ذكرته بعض الوكالات حول ما يقرب من سبعة عشر ألف جندي عادوا من العراق وأفغانستان بسبب المرض والإصابة "خارج دوائر القتال"، فضلاً عن التذكير بأن أرقام القتلى لا تشمل عشرات الآلاف من العاملين في جيوش المرتزقة الأمنية التي تقدر حسب دوائر عديدة بحوالي ثلاثين ألف شخص، كما لا تشمل من لا يحملون الجنسية الأميركية من الجنود. نستعرض هذه الأرقام لا لنؤكد حقيقة النزيف البشري الأميركي في العراق، على أهميته، بل لنقارن حجم العمليات الإشكالية من خطف واستهداف للشرطة بحجم عمليات المقاومة المشروعة، الأمر الذي يشير إلى أن ما يجري في معظمه هو مقاومة مشروعة وليس قتلاً للعراقيين، حتى لو كانوا من المتعاونين مباشرة مع الاحتلال. وقد ذهب أحدهم في إحدى مداخلاته إلى أن فصيلاً من المقاومة العراقية لم يقل البتة أنه لا يستهدف غير جنود الاحتلال، وهو تعميم ظالم، لأن عشرات البيانات قد صدرت بهد المعنى من فصائل المقاومة ومعها موجة استنكارات لاستهداف الشرطة وعمليات الخطف العشوائية التي تنفذها بعض القوى، مع أن التأكد من حقيقة الأمر يبقى صعباً في ظل الوضع القائم في العراق. في سياق الهجمة ذاتها على المقاومة العراقية تبرز حكاية البرنامج السياسي التي يرى البعض أنها غائبة تماماً لحساب فوضى لا معنى لها تسود الساحة. وهنا ينبغي القول إن مسيرة المقاومة العراقية لم تتجاوز العام ونصف العام، وهي فترة لا تبدو كافية من أجل فرز القوى وبلورة الخطاب، لكن الأهم من ذلك هو أن ما صدر حتى الآن عن القوى العاملة في الساحة يبدو كافياً، إذ أن شعارات إخراج الاحتلال واستعادة السيادة الحقيقة ورفض أية عملية سياسية تتم تحت إشراف الاحتلال، هذه الشعارات تبدو كافية إلى حد كبير. أما مسألة الكعكة وتقسيمها وشكل عراق المستقبل فهو من التفاصيل التي لا يتوقع من المقاومة أن تحسمها في هذا الزمن القياسي. مع أننا نشير هنا إلى أن كثيراً من القوى التي تشكل غطاءً للمقاومة في الساحة السنية والشيعية قد تحدثت عن الديمقراطية والحرية واحترام الإسلام والحكومة المنتخبة التي تمثل العراق الموحد. في ذات السياق تبرز مسألة التركيز المفرط على حكاية الزرقاوي الذي غدا فزاعة يراد لها أن تستنفر العالم العربي والوضع الدولي ضد المقاومة، بوصفها ظلامية لها برنامجها الأممي العابر للحدود. والحال أننا حيال تسطيح يستبطن التحريض المعلن، وإلا فهل يصدق عاقل أن الزرقاوي سيغير وجه الكون على النحو الذي تقدمه بعض وسائل الإعلام. وهل يمكن الركون إلى أوراق وبيانات مشكوك فيها من أجل وضع المقاومة في مربع شخص واحد، فيما يدرك العارفون ومن ضمنهم قادة الاحتلال أن قواها الأكثر فاعلية هي من النوع العاقل الذي يعرف حدود حركتها السياسية ولا تتحدث البتة عن أممية إسلامية تبدأ بالعراق وبخطاب سياسي لا يستسيغه الشارع العربي والإسلامي عموماً. وقد جاء تقرير "الديلي تلغراف" الذي نشر مؤخراً ليضع النقاط على الحروف بشأن حكاية الزرقاوي، سيما بما نقلته الصحيفة عن أحد العملاء الأميركيين الذي قال: "كنا ندفع تقريباً 10 آلاف دولار في كل مرة لقناصي الفرص والمجرمين الذين يمررون القصص الخيالية والافتراضات حول الزرقاوي لتحويله إلى حقيقة واقعة وجعله على علاقة بكل هجوم يحدث في العراق". من هنا تبدو مقولات أضرار خروج الاحتلال قبل تشكيل شرعية وطنية نوعاً من العبث، لما تنطوي عليه من رجاء الخير العميم من عدو تعلم تماماً أنه لم يأت لنشر قيم الديمقراطية، بل جاء من أجل النهب والهيمنة وتغيير الهوية، الأمر الذي يدفع إلى التشكيك بأية خطوات سياسية تتم تحت رعايته بصرف النظر عن ظاهرها البراق. ونتذكر على هذا الصعيد حكاية المؤتمر الوطني والمجلس الوطني الذي لم يخرج عن إطار القوى المتعاونة مع الاحتلال، فهل يتوقع بعد ذلك أن تجرى انتخابات حرة ونزيهة تسلم السلطة للممثلين الحقيقيين للعراق؟ أي إحسان ظن بالمحتلين هذا؟! مع ذلك دعونا نذكر سادة الحرص على الدم العراقي والمصالح العراقية ممن يؤمنون بالانتخابات التي سيرعاها الاحتلال بواقع الحال لو مرت الفترة الماضية منذ مجيء الأميركان من دون مقاومة، هل كنا سنرى انتخابات أو مجلس وطني، أم لكنا أمام مشروع انتداب أو هيمنة استعمارية مباشرة من خلال الحاكم العسكري ومستشاريه أو العملاء المعلنين؟! ما ينبغي أن يضاف إلى ما قلنا بشأن الهجمة على المقاومة العراقية هو تجاهلها، أو مرورها العابر على جرائم الاحتلال وسياسة الأرض المحروقة والعقوبات الجماعية التي ينتهجها بحق العراقيين في عدد كبير من المدن والقرى والأحياء، الأمر الذي لا يمكن تصنيفه إلا بوصفه تواطؤاً مع الاحتلال ومشروعه. لا يعني ذلك بالطبع أن كل شيء يسير على ما يرام، فلا يكاد يمر يوم إلا وتصدر القوى المساندة للاحتلال بيانات توضح وتصوب وأحيانا تندد ببعض الممارسات المحسوبة على المقاومة، الأمر الذي يؤكد أن قوى المقاومة في طور الاستفادة من أخطائها ومن ثم العمل على تصحيحها ما أمكن ذلك ضمن ظروف الزمان والمكان. ولعل الموقف من قضايا الاختطاف واستهداف الشرطة وبعض المواقف المشابهة هي الدليل العملي على ما نقول. قصارى القول إن ثمة فرق كبير بين شطب المقاومة والترويج لبرنامج الاحتلال وبين النقد الذي يصحح المسيرة ويعترف بحق الشعب العراقي في المقاومة، ومن ثم قدرة تلك المقاومة على إخراج الاحتلال وإفشال مشروعه لاستهداف العراق والأمة من ورائه. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني