لم يمر استقبال الرئيس الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز، نهاية شهر يوليوز 2015، للمدعو محمد سالم ولد السالك، القيادي فيما يسمى "البوليساريو"، دون إثارة تساؤلات حول مغزى وتوقيت هذه "الحادثة"، وعن ماهية الرسالة التي تحمل في طيّاتها. فالاستقبال ليس حدثاً في حدّ ذاته بحكم أن له سوابق في الماضي، وإنما الإشكال في إضفاء الطابع الرسمي عليه، وتغطيته إعلامياً بوصفه استقبالاً "لوزير خارجية" مزعوم لكيان موهوم. فهل يُعقل أن يستقبل رئيس دولة "وزيراً" يحمل جواز سفر دولة أخرى، غير تلك التي جاء يُمثلها؟ أم أن شرطة الحدود الموريتانية لم تُنه إلى علم فخامة الرئيس أن "الوزير" الافتراضي يحمل جواز سفر جزائري؟ إنّ من أبسط مقومات الدولة، في الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية، أن تمتلك الشخصية القانونية التي تؤهلها لإصدار وثائق هوية رسميّة ومعترف بها دولياً، لتمكين مواطنيها من التنقل داخل وخارج الحدود. فكيف تعترف موريتانيا إذاً بكيان هُلامي لا يملك "وزراؤه" المزعومون التنقل إلا بجوازات سفر جزائرية؟ مجرد سؤال على الهامش، نودّ لو تفضل بالإجابة عنه الساسة والإعلاميون "الرسميون" في جارتنا الجنوبية، من أولئك الذين جرّدوا أقلامهم وشحذوا ألسنتهم للدفاع عن هذه الزلة الدبلوماسية. طبعاً، لا أحد يجادل في السيادة الوطنية لموريتانيا، وحقها الأصيل في أن تستقبل من تشاء. ولكن بنفس القوة اليقينية لا نشكّ في أنّ جارتنا تعلم أن هذا الموقف يُسيء للمغرب، وينتقص من سيادته على أراضيه وينتهك وحدته الوطنية قبل الترابية. فالنزاع الذي يُشعل النظام الجزائري نيرانه في الصحراء منذ أربعين سنة ما يزال على طاولة الأممالمتحدة في نيويورك. وقرارات مجلس الأمن الدولي بما فيها القرار الأخير رقم 2218، تهدف للوصول إلى حلّ سياسي متوافق عليه. وأقصى ما يطالب به المنتظم الدولي وزُمرة الانفصاليين أنفسهم، هو تقرير مصير ساكنة الأقاليم الجنوبية للمملكة. وعلى هذا لا يحق لأي دولة تحترم نفسها أولاً، ثم تحترم القوانين الدولية ثانياً أن تُصادر حق هذه الساكنة في تقرير مصيرها، أو أن تُنصّب نفسها وصياً غير شرعي عليها. فالاعتراف بدولة المخيمات الوهمية تحت وصاية نظام العسكر الجزائري، إلغاء لصوت مواطنينا في هذه الأقاليم، واستصدار لحكم باطل من جهة لا تتوفر على الأهلية. الأزمة الصامتة التي تمر منها العلاقات المغربية الموريتانية، لا يمكن أن تخطئها العين، وإحجام جارتنا الجنوبية عن تعيين سفير جديد بالرباط بعد شغور المنصب لأزيد من ستة أشهر، واحدة من القرائن على ذلك. ولكن رسالة "الاستقبال" تحمل إشارات إلى جارتنا الشرقية كذلك، فيما يُشبه محاولة لطمأنتها بعد طرد السكرتير الأول بسفارتها بنواكشوط، وكأن لسان حالها يقول بأن الطرد "لا يفسد للود قضية" ولا يجب أن يُفهم منه تودّد للمغرب على حساب الجزائر. وللتذكير فقد جاء طرد الرجل الثاني في السفارة الجزائرية، بلقاسم شرواطي في أبريل الماضي، على خلفية تورطه في تسريب معلومات تضليلية للإعلام الموريتاني بغرض إفساد العلاقات مع المغرب. وكان قد سبق "للبروباكاندا" الجزائرية أن حاولت تسميم هذه العلاقات سنة 2012 باتهام المغرب بضلوعه في محاولة اغتيال الرئيس الموريتاني الحالي، وهو ما نفته موريتانيا في حينه. وقد دأبت الجزائر على استعمال هذا الأسلوب في حربها القذرة ضد المغرب ووحدته الوطنية والترابية في عدة مواقع. وعوداً على بدأ، موريتانيا تعرف أن جبهة الانفصاليين تلطخت أياديها بدماء الموريتانيين في الفترة ما بين 1975 إلى 1978. كما أن النظام الجزائري كان ضالعاً في هذه الحرب التي وصلت إلى مشارف نواكشوط، تماماً كما كان ضالعاً في العديد من الانقلابات والانقلابات المضادة التي عرفتها بلاد شنقيط. ونستذكر في هذا الباب انقلاب الكولونيل المصطفى ولد السالك في يوليو 1978 الذي تلاه اعتراف بالكيان الوهمي بتندوف، ثم بعد ذلك انقلاب الكولونيل خونة ولد هيدالة الذي حكم في الفترة بين 1980 و1984، وهي إحدى أحلك فترات الصراع ضدّ وحدتنا الوطنية والترابية، خاصة على الساحة الإفريقية. وفي الأمس القريب كان النظام الجزائري من أشرس المعارضين لوصول الكولونيل محمد ولد عبد العزيز، خريج الأكاديمية العسكرية بمكناس، إلى سُدّة الحكم في موريتانيا بعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله في 6 غشت 2008. وقد شنت الخارجية الجزائرية، في حينها، حملة دولية وإفريقية شعواء على ولد عبد العزيز بحجة انقلابه على رئيس منتخب. وهو موقف غريب من النظام الجزائري لأنه وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري على صناديق الاقتراع في يناير 1992. لهذه الأسباب وغيرها لا يمكن لموريتانيا أن تقفز على تاريخها المشترك ومصالحها الاستراتيجية مع المغرب لصالح حسابات تكتيكية عابرة، أو بسبب "نزوات" مكيافيلية لنظام مجاور أثبتت الوقائع أنه لا يملك رؤية للمستقبل ولا يمكن الوثوق به، بالنظر إلى تدخله في شؤونها الداخلية وتلطخ أيادي جنرالاته بدماء الموريتانيين، سواء من خلال الحرب بالوكالة التي خاضها بواسطة مليشيات ما يسمى "البوليساريو"، أو من خلال زعزعة الاستقرار وتورطه في دعم الانقلابات في هذا البلد كما أسلفنا. أما ما يجمع المغرب وموريتانيا فهو أكبر من أن يتأثر بزوابع وهمية أو ردود فعل آنية، ويشهد على ذلك أعلام ورجالات سطروا صفحات مشرقة من مِخْيالنا الجَمْعي، من أمثال حُرمة ولد بابانا، والدّايْ ولد سيدي بابا، والأمير فال ولد عُمير، أمير الترارزة في بلاد شنقيط، الذي استعصى على المُستعمِر استقطابه إلى أطروحته، فخلّد المغرب اسمه في أحد أكبر شوارع العاصمة الرباط، عربون وفاء لرجال صدقوا ما عاهدوا عليه. وأياً تكن الرسالة التي تريد الجمهورية الإسلامية الموريتانية توجيهها إلى المغرب، فعليها أن تتفادى الرسائل الخطأ في الزمن الخطأ. فوحدة المغرب وسلامة أراضيه محل إجماع كلّ المغاربة، وليست مجالاً للمزايدات أو الرسائل المُشفّرة. والطبقة السياسية في موريتانيا تعي ذلك جيداً، فهي مُلمّة بتفاصيل النزاع في الصحراء منذ اتفاقية مدريد التي كانت طرفاً فيها. وما عدا ذلك، يمكن أن نتفق أو نختلف حول بعض القضايا التي تهم مصالح الطرفين، ضمن مقاربة تبني المستقبل الإقليمي المشترك، ولا تهدمه كما يريد أمراء الحرب في الجارة الشرقية..