منتصف ليلة 28 نونبر من سنة 1960، وتحت خيمة في نواكشوط، التي نقلت إليها العاصمة حديثا، يعلن الرئيس المختار ولد داداه استقلالَ موريتانيا بحضور وفود صحافية أجنبية و عدد من الشخصيات الفرنسية والإفريقية قائلا: «بناء على الاتفاق الذي عُقد بين كل من الجمهورية الفرنسية والجمهورية الإسلامية الموريتانية بتاريخ 19 أكتوبر 1960، وهو الاتفاق المصادَق عليه من لدن برلمانيي الدولتين، أعلِن استقلالَ الجمهورية الإسلامية الموريتانية».. وما إن أتمّ ولد داداه كلماته، التي نطقها باللغة الفرنسية، حتى تعالت الزّغاريد والتصفيقات وسط جموع الحاضرين.. موريتانيا المغربية في شهر نوفمبر 1955،بعد عودة محمد الخامس من المنفى، نشر حزب الاستقلال ما سمي «بالكتاب الأبيض» الذي يحتوي على وثائق وخرائط مفصلة تشمل ثلاث مناطق هي موريتانيا و»الصحراء الغربية» وجزء كبير من الغرب الجزائري. فغداة استقلال المغرب عن فرنسا مباشرة، بدأ علال الفاسي يروج لتصوره لحدود المغرب التاريخية «دار الإسلام». ففي تجمع حاشد لحزب الاستقلال سنة ،1956 أخذ زعيم الحزب علال الفاسي عصاه ورسم على الرمال خارطة كبيرة تضم أراضي شمال غرب أفريقيا وقال مخاطبا قادة حزبه : « نطالب بكل أجزاء الإمبراطورية العلوية التي لم تتحرر بعد والتي تبدأ من طنجة شمالا مرورا بالصحراء الغربية وصولا إلى الصحراء والحدود الجزائرية، بشار الاغواط ، ادرار مرورا باطار في موريتانيا وصولا إلى السينغال، وإذا لم تتحرر هذه المناطق فإن من واجبنا أن نقوم بفعل لنحرر وطننا ونوحده.» ولم يكتف القيادي الاستقلالي بهذا، بل أنه قال في 27 مارس 1956 مؤكدا في تعميم تلك الأفكار: «مادام النظام الدولي قائما في منطقة طنجة والصحاري الأسبانية، من جنوب تندوف إلى اطار، وإذا لم تزح الوصاية عن الأقاصي الجزائرية المغربية يبقى استقلالنا مبتورا، وواجبنا الأول هو متابعة العمل من أجل تحرير البلاد وتوحيدها». وقد استند علال الفاسي في مقولاته على مرحلة التاريخ الوسيط للدول التي تعاقبت على حكم المغرب، مثل دولة السعديين التي امتد نفوذها حتى نهر السينغال جنوبا، ويظهر ذلك من خلال الخرائط التي تضمنها الكتاب الأبيض. يشير محمد زيان بهذا الصدد أنه : «على مر العصور، كانت الدول التي تعاقبت على حكم المغرب تتمطط وتتقلص بحسب الفترات، فأحيانا تصل إلى مالي والسينغال والأندلس، وأحيانا أخرى لايتجاوز حكمها العاصمة أو بعض المتآخمة لها». وفي يونيو 1956 قام حزب الاستقلال بنشر نسخة جديدة من الكتاب الأبيض تتضمن خارطة تشمل «الصحراء الغربية» والصحراء الجزائرية وبلاد شنقيط، وقام بإعدادها ورسمها عبد الكريم الفاسي ابن عم علال الفاسي وهو الذي قام بتوزيعها بنفسه في القاهرة يوم 3 يوليو 1956، كما قامت جريدة العلم المغربية لسان حزب الاستقلال بنشر الخارطة المذكورة على صفحتها الأولى. لم يكتف زعيم حزب الإستقلال بهذه التصريحات بل قام بتعميمها في العالم العربي ومصر خاصة، مؤكدا أن «إن حدود المغرب تنتهي عند سانت لويس بالسينغال» ثم أعاد رسم خارطة «المغرب الكبير» في جريدة العلم المغربية يوم 7 يوليوز سنة 1956 مرفقة بمقال له يذكر فيه أن حدود المغرب يجب أن تمتد إلى ما وراء نهر السينغال . ونشر مقال أخر بنفس الجريدة في 7 يونيو سنة 1961 بعنوان : «الحقيقة عن الحدود المغربية»، ذكر فيه بأن دولة مالي في حدودها السابقة هي الدولة الوحيدة المجاورة للمغرب على الحدود مع الصحراء. كما ضغط حزب الاستقلال للاعتراف دستوريا بمطالبه، حيث أن المادة الرابعة من القانون الأساسي للمملكة الصادر بتاريخ 2 يونيو 1961 نصت آنذاك، على ضرورة توحيد الأراضي المغربية، كما أن المادة 19من الدستور المغربي الصادر في 10 مارس 1972 تحدثت أيضا عن أقاليم المملكة في «حدودها التاريخية». وقد سبق تلك الفترة الاشتغال الدؤوب لعلال الفاسي، بقصد تجميع الوثائق التي تؤيد أحقية المغرب في «أرض شنقيط»، فمنذ سنة 1957 بدأ جهوده التوثيقية رغم تحفظ كل من ولي العهد آنذاك، «الحسن الثاني»، والمهدي بنبركة، ليكلف هذا الأخير محمد اليازغي وعمر بن جلون ورشيد بن عبد الله وعباس الدكالي، بالاشتغال مع علال الفاسي حول ملف موريتانيا والصحراء في الوثائق الفرنسية. لكن عمر بن جلون ورشيد بن عبد الله لم تساعدهما الظروف كي يشاركا في هذه المهمة، لذا سافر اليازغي وعباس الدكالي إلى طنجة والتحق بهم بن زكري، واشتغلوا جميعهم 15 يوما في منزل علال الفاسي على الأرشيف الفرنسي، سواء ما تعلق منه بوثائق وزارة الخارجية الفرنسية أو بالتقارير التي كان الحكام الفرنسيون في الجزائر ودكار يبعثون بها إلى الحكومة في باريس حول الصحراء وموريتانيا. وكانت هذه ذخيرة كبرى لأنها كلها في النهاية تبين أن شنقيط والساقية الحمراء ووادي الذهب كانت دائما جزءا لا يتجزأ من المغرب، ففي تلك الوثائق والتقارير يعترف الفرنسيون بأنهم اقتطعوا أطرافا من الصحراء الشرقية في المغرب وألحقوها بالجزائر. والواقع أن الموريتانيين ظلوا مغاربة، وظلت بلادهم تابعة لحكم سلاطين المغرب، حتى وقع التغلغل الفرنسي في أراضيهم سنة 1904، ففي سنة 1905 أرسل سلطان المغرب مولاي عبد العزيز، حملة بقيادة أحد العسكريين المغاربة لطرد الجيوش الفرنسية الغازية من «تيجيكجا» فكانت معركة «السيل» الشهيرة داخل حصن تيجكجا في شهر ماي من نفس السنة. كما استقبل السلطان سنة 1908 وفدا عن مشايخ موريتانيا وهم علي ولد عساس رئيس قبيلة «البراكنة»، وسيدي ولد محمد فال رئيس اتحادية قبائل «الترارزة» وعلي ولد بكار رئيس قبيلة «تاكانت» وأرسل معهم أحد كبار قواد جيشه إلى جانب دعمه لهم بالسلاح، فكانت معارك شرسة بينهم وبين الغزاة. لكن تطور الأحداث التاريخية في الشمال وفرض عقد الحماية، أرغم السلطان على إصدار أمره بعدم الاستمرار في محاربة المحتلين. ورغم التغلغل الفرنسي الذي عم أجزاء موريتانيا، فقد اعترفت فرنسا واسبانيا وغيرهما من القوى الاستعمارية في مختلف الاتفاقات بينها على أن حدود المغرب الأقصى من جهة الجنوب هي أفريقيا الغربية، ومن جهة الشرق هي الجزائر. وقد جاء مشروع الاتفاق الفرنسي الألماني حول المغرب، مؤكدا لتلك الحقيقة، حيث جاء في مادته التاسعة: «الإقليم المغربي الذي تنطبق عليه تدابير هذا الاتفاق، يحتوي على المناطق التي تقع بين الجزائر وأفريقيا الغربية، ومستعمرات ريودي أورو الاسبانية..» وقد استمر ذكر هذه المادة في مختلف المشروعات التي تبادلتها فرنسا وألمانيا بشأن المغرب، فحينما تم الاتفاق بين الدولتين في 4 نوفمبر 1911، جاء في الرسالة الملحقة بالاتفاق والتي بعث بها السيد «كيدركن ومينتر» سكرتير الدولة الألمانية في الخارجية، متوجها إلى السيد «جول كامبو» سفير الجمهورية الفرنسية في برلين ما يأتي : «من المتفق عليه أن المغرب يحتوي كل قسم إفريقيا الشمالية، الذي يمتد من الجزائر وأفريقيا الغربية الفرنسية ومستعمرات ريودي أورو الاسبانية» (مجموعات ريفيير، جزء 1) وقد صادقت جميع الدول التي سبق وأن شاركت في مؤتمر الجزيرة الخضراء على هذا الاتفاق الفرنسي الألماني الذي يعتبره العديد من المؤرخين بمثابة «المعاهدة الحقيقية للحماية المغرية»، وبالرجوع إلى الخرائط التي وضعها الفرنسيون لأفريقيا الغربية، فإنها تحدها بميناء «أتيان». ونفس الأمر تؤكده «خريطة «بلوديل» المطبوعة بباريس أوائل القرن العشرين، التي تشهد على إن الدول الغربية كانت تعترف بامتداد الجنوب المغربي إلى حدود أفريقيا الغربية..». (علال الفاسي، دفاعا عن وحدة البلاد). انفصال موريتانيا عندمت تم إعلان إنفصال موريتانيا عن المغرب وتأسيس الجمهورية الموريتانية، تحت خيمة، ليلة 28 نونبر 1960، وانطلقت الاحتفالات تخليدا للمناسبة، وازدان المكان بالألوان الوطنية، الخضراء والصفراء وقد كانت الدهشة بادية في وجوه بعض شيوخ القبائل -حسب مؤرّخين للحدث- لاعتقادهم أنّ الخروج من حلقة العنف المتواصل بين القبائل يمرّ حتما عبر الإشراف الأجنبيّ، وتحديدا الاستعمار الفرنسي.. وقد وقف المختار ولد داداه في الجموع خطيبا بوصفه أولَ رئيس للدولة التي خرجت للتو من عباءة المُستعمِر... عقب ذاك الإعلان، استشاطت الرّباط غضباً، منكرة ذلك ولم تعترف أيٌّ من الدول العربية بموريتانيا سوى تونس. ومن 1960، بقيت موريتانيا كيانا معزولا إلى أن قبلت الجامعة العربية عضويتها في 1973، مما دفع ولد داداه إلى الإشارة، في مذكراته، إلى أنّ «موريتانيا لم تستقلَّ فعليا إلا سنة 1973»، بعد أن اعترف بها المغرب سنة 1969 وخفتت مطالباته بعودة الإقليم «المتمرّد» (موريتانيا) إلى حضن الدولة المركزية وفقا لأطروحات علال الفاسي.. لقد شرعت فرنسا تفكر في التخلي عن السيادة الكاملة في بعض مستعمراتها، بعد أن أنهكتها الحرب العالمية الثانية، لكنها -موازاة مع ذلك- بدأت باستنزاف ثروات البلدان المحتلة، التي من بينها موريتانيا، دون أن تبذل أيَّ مجهود طيلة استعمارها في تعزيز بنياتها التحتية. كما فعلت في معظم مُستعمَراتها في القارة الإفريقية، مما حتم على الجيل المؤسّس لموريتانيا الانطلاق من نقطة الصفر وسط بحر من الرّمال وكذا من الأزمات، فكيف تم له ذلك؟ بدأت الإرهاصات الأولى للاستقلال موريتانيا في فرنسا، إذ أنشأت الإدارة الفرنسية نظام 27 أكتوبر 1946 بموجب دستور الاتحاد الفرنسي، الذي ألحق ولايات وأقاليم ومقاطعات ما وراء البحار بالجمهورية الفرنسية، إضافة إلى الأقاليم المحمية والمُستعمَرات، وبذلك أصبحت موريتانيا إقليما سياسيا متميزا ينتمي إلى اتحاد فيدراليّ يدعى النيجر (مالي) ويضمّ السنغال والسودان -الفرنسي وإفريقيا الغربية (بوركينا أفاسو موريتانيا) وفولتا العليا (بنين) وغينيا وساحل العاج (الداهومي). نتج عن هذا «الإصلاح» الاستعماري مَنحُ الأقاليم امتيازات سياسية ودستورية، حيث تمتعت بحق إنشاء هياكلَ تشريعية وتنفيذية تابعة للوالي العامّ الفرنسي المنتدَب من طرف الحكومة، الذي آلت إليه الاختصاصات الجوهرية، المتمثلة في «مسائل الاقتصاد وأصول المالية والحربية والدفاع والشؤون السياسية».. تلك الأمور التي بقيت تحت إشراف الغرفة الأهلية التابعة للوالي، فيما بقيت صلاحيات الجمعيات الإقليمية المُنتخَبة محدودة ولها حق اختيار ممثل لها في المجلس الأعلى لغرب إفريقيا الفرنسية. وقد استطاع الزعيم أحمد ولد حرمه ولد بابانا أن يهزمَ المرشح الفرنسي إيفون رازاك، المدعوم من طرف الإدارة الاستعمارية، لتتلاحق الأحداث الدولية والإقليمية متسارعة، مما أجبر فرنسا على إعادة النظر في سياساتها تجاه موريتانيا لتمنحها استقلالا ذاتيا عبر إنشاء مجلس حكوميّ سنة 1956. كانت المرحلة الأولى في مسلسل استقلال موريتانيا في 20 ماي 1958، حين تم تعيين المختار ولد داداه نائبا لرئيس مجلس الحكم، الذي يرأسه الوالي الفرنسي، فمنذ ذلك الحين بدأ المختار -حسب ما ورد في مذكراته- تنسيق الجهود الرامية إلى إنشاء الدولة الموريتانية المستقلة، وفي يناير 1958 أسنِدت الوزارة إلى الموريتانيين وتشكلت أول وزارة من الموريتانيين، وكان من جملة أولوياتها نقلُ العاصمة واستغلال المعادن في أقرب وقت للمساعدة في نمو البلاد وعدم الرّضوخ لمطالب المغرب. وقد تعرّضت موريتانيا في تلك الفترة لضغوطات مغربية تطالب بضمّها كإقليم من أقاليمه، كما عرض عليها الانضمام إلى «فدرالية مالي»، وفي هذا الصدد شهدت المنطقة سنة 1959 حدثين مهمّين، أولها هو ميلاد الحزب الفدرالي الإفريقي، الذي يرأسه سينغور وموديبو كايتا، وثانيهما هو إنشاء «فدرالية مالي»، بقيادة القائدين، وهو ما انعكس على الساحة الوطنية حين تجلى ذلك في مطالبة أعضاء من الجمعية التأسيسية الموريتانية بالانضمام إلى الفدرالية المذكورة، ومن بين هؤلاء الشيخ سعد بوه كان وسليمان ولد الشيخ سيديا والداه ولد سيدي هيبه ومحمد عبد الله ولد الحسن، المستشار الأعلى لإيفون رازاك.. الأمر الذي أشعل فتيل التوترات، خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية المتاخمة لكل من مالي والسّنغال. وقبل إعلان الاستقلال كانت بعض الأحزاب تعلن معارضتها له، فحزب «الاتحاد الوطني الموريتاني» طالب بالانضمام إلى مالي، ومن زعمائه الحضرامي ولد خطري، الذي طالب -بدوره- «حزبَ النهضة» بالانضمام إلى المغرب، في حين طالب «حزب الاتحاد الاشتراكي للمسلمين»، الذي تزعمه أحمد ولد كركوب، بعدم إعلان الاستقلال. في قلب الصّحراء كانت المشاكل المتعلقة بنقل العاصمة على مائدة أول جلسة للحكومة الأولى، والتي تمّت تحت رئاسة الوالي موارك، وتقرر عقد اجتماع في نواكشوط في شهر دجنبر 1958، لتحديد المكان المناسِب لإقامة العاصمة، وفي 5 مارس من السنة نفسِها وضع الحجر الأساسي لبناء العاصمة الجديدة. حينها، لم تكن نواكشوط سوى مركز إداريّ وقرية صغيرة لا يتجاوز تعداد ساكنتها 200 شخص أغلبهم بدو ويتشبثون بتقاليدهم الأصيلة.. يقول ولد داداه في مذكراته: «لم يكن الفرنسيون والسنغاليون، بل ولا بعض الموريتانيين، يرغبون في مغادرة «سان لويس»، التي يتوفر فيها كل شيء، ليلتحقوا ببلدة وهمية لا وجود لها إلا من بعض المجموعات المبعثرة من خيام البدو، على كثبان رملية لا يرتادها في الغالب غيرُ أسراب من بنات آوى (أيْ الذئاب) وأفراد من البدو العابرين، بلدة لا يتوفر فيها أي تموين بأي مادة حتى مياه الشرب.. لقد كان من اللازم إقناع ذاك الجمع بأنّ موريتانيا لم تعد تابعة للسنغال أو المغرب، وعلى المواطنين ووكلاء الإدارة الراغبين في متابعة الخدمة في مصالح الإدارة الموريتانية أن يغادروا تدريجيا مدينة «سان لويس» للالتحاق بمدينة نواكشوط، التي شرع في تشييدها في قلب البادية، حيث يتعرّضون لخطر الموت ظمأ وجوعاً». وفي الفترة الوجيزة، التي امتدّت من 5 مارس 1958 إلى 19 نونبر من السنة نفسها، أصبحت كل الأنشطة السياسية تدار من نواكشوط، رغم عدم الاستقرار والترحال اللذين طبعا الساكنة المحلية آنذاك. يتحدّث ولد داداه في مذكراته قائلا: «كان مقامنا خلال الأسابيع الأولى في حي «لكصر»، حيث أقام بعضنا مع السكان، وبعضنا في فندق «كوميز»، وهو استراحة بدوية أدخِلت عليها بعض التحسينات، وكنا نتناول الطعام غالبا عند أحد السكان بصورة جماعية، وكان بعض أصحاب الدكاكين وأعيان القرية يدعوننا للأكل دوريا على الطريقة الموريتانية.. بعد ذلك، قررنا الانتقال إلى حيّ العاصمة والاستقرار فيه، وبما أنّ منازلنا لم تكتمل فقد كان على كل واحد منا أن يستقرّ في منزله كيفما كانت حالته حتى يتم استكمال البناء.. وكان لديّ سرير من أسِرّة السفر أنصبه مساء وأطويه فجرا، لأترك المكان لإتمام الأعمال في المنزل.. وقد أقمت أول مكتب لي بنواكشوط في «مرآب» الفيلا الصّغيرة التي أسكنها، ثم حولته في ما بعدُ إلى فيلا صغيرة وضعت فيها المكتب ولم يتسع لأكثرَ من مقعدين زيادة على المقعد الذي أجلس عليه، وكنت إذا زاد عدد من معي أضطرّ إلى البقاء واقفا، وحتى ونحن واقفون لا يمكن أن يزيد العدد على خمسة أشخاص أو ستة.. أما الجمعية الوطنية فقد اتخذت من حجرات المدرسة الثلاثة مقرّا لها».. هكذا كانت بداية نواكشوط، حين كان كل شيء يأتي عن طريق مدينة «روصو»، بما في ذلك مياه الشرب، وكان النقل يتم عبر طريق صحراويّ غير مُعبَّد، تتوقف فيه الحركة ساعات أو أياما عند سقوط أولى كمية من المطر، ويحتاج قطعه إلى ساعات متواصلة من السفر.. انقسام النخبة الموريتانية بالتحاق الثلاثي الداي ولد سيدي بابا ومحمد فال ولد عمير ومحمد المختار ولد أباه بالمغرب، انقسمت النخبة السياسية الموريتانية بن مؤيد ورافض لاستقلال موريتانيا، وأصبح عدد من رموز شنقيط عقبة أمام مسعى الاستقلال، لأنّ انضمام هذه الشخصيات الوازنة داخل المجتمع الموريتاني زاد من جدية مطالبة المغرب بعودة «أرض شنقيط»، التي يعتبرها إقليما متمرّدا يجب أن يخضع لسيادته، وللتصدّي لهذا الدعم الذي من شأنه إضفاء المزيد من الشرعية على مَطالب المغرب، دعا ولد داداه إلى عقد مؤتمر «ألاك»، الذي كان في يوم 2 ماي 1958 وحضره جمعٌ من الشخصيات الهامة وأعيان البلد وقواه الحية، «الذين طلب منهم التوقيع على عريضة تتضمّن أنه لم يسبق لبلادهم أن كانت تابعة للمغرب، وأنّ آل عثمان أي -آل عيد- هم ملوك موريتانيا ورؤساؤها، فتكلم السيد أحمد بن كوكب، وقال: إننا مغاربة أقحاح، وبلادنا مغربية، ولغتنا وديننا وجنسيتنا ووضعيتنا مغربية، وآل عيد الأقدمون كانوا تابعين للدولة العلوية».. (علال الفاسي، نداء القاهرة). وقد ناقش المؤتمر مختلف المشاكل المطروحة على المستويين الداخلي والخارجي وأصدرت القرارات بشأنها، كان من أهمها، إقرار المؤتمر الدفاع عن الحوزة الترابية والتصدي لكافة التهديدات أيا كان مصدرها، وإقرار كون موريتانيا جزءا من مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية مع الاستقلال الداخلي التام، والرغبة في نيل الاستقلال الوطني، كما قرر نفس المؤتمر ربط علاقات ودية مع حزب التجمع الإفريقي، والتجمع الديمقراطي الإفريقي، بهدف تحقيق عمل متكامل مع هاتين الفئتين المتنازعتين على أن لا ينحاز لأي منهما، كما أعلن رفضه القاطع لأي انضمام سياسي أو إداري إلى منظمة الأقاليم الصحراوية،موصيا بعقد اتفاقيات اقتصادية معها على أن يتم التفاوض في كل الاتفاقيات. وفي الأخير وجه المؤتمر نداءا خاصا إلى فرنسا يطلب منها فيه وضع حد للحرب في الجزائر وبدأ المصالحة في البلدان العربية.