لا حاجة إلى استعادة مناقب الإمام ابن تيمية فقد سبقني إلى ذلك الزميل حسين الرواشدة في مقاليه في الدستور (23 ، 24/2). أما هذا النمط من المناظرات الذي دأبت عليه قناة المستقلة فهو مجرد بحث عن الإثارة وعدد من المشاهدين لا تجدهم الفضائية المذكورة في الأوضاع العادية. ابن تيمية رمز من رموز الأمة، وحين يذكر العلماء الكبار العاملون والمجاهدون في التاريخ يحضر اسمه إلى جانب العز بن عبدالسلام وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. لكن المشكلة ليست في ابن تيمية وإنما في مدرسة تدعي الانتساب إليه ولا تأخذ منه إلا عقيدته السلفية المتشددة إلى حد ما، فيما تترك تراثه في الفقه والاجتهاد ضمن ظروف الزمان والمكان، كما تترك جهاده لصالح الأمة ودينها ووجودها. هناك الآن من الذين ينتسبون إلى ابن تيمية "مرجئة" جدد لا همّ لهم سوى تبديع الناس والعلماء وتفسيقهم على مواقف خلافية في العقيدة. بل إنهم يتطاولون حتى على رموز كبار في التاريخ أيضاً كما يفعلون مع العز بن عبدالسلام وأبن حجر والنووي وأبوحنيفة إلى غير ذلك بدعوى فساد العقيدة!! لقد استند خصم ابن تيمية خلال مناظرة الفضائية المذكورة في سياق تكفيره له على مجموعة نصوص تجسّم الخالق عزّ وجل على نحو لا يمكن أن يستوي، لا مع العقل ولا مع النقل. وفيما نرفض أن يكفّر عالم على كلمات أو عبارات كتلك، فإننا نرفض الكيل بمكيالين، لأن بعض مدعي الانتساب إلى ابن تيمية يكفرون الناس على مجرد كلمات وعبارات كما فعلوا مع الشهيد سيد قطب. ربما كنا نتفهم أن يتأثر ابن تيمية بالأجواء الصوفية السائدة في زمنه فيردد بعض ما يؤخذ عليه في وصف الخالق عزوجل، لكن ذلك يبدو أكثر كارثية هذه الأيام بعد أن اكتشف العقل البشري على محدوديته أن هذه الأرض وما عليها ليست سوى جزء من آلاف المليارات من الأجزاء من الكون، وكل ذلك في السماء الدنيا فقط. ثم يأتي من أولئك من يتعامل مع الخالق عزّوجل بذات منطق التجسيم الذي تورط فيه أناس في القديم يوم كان الإدراك محدوداً بهذه الكرة الأرضية، بل بأجزاء منها. شيخ الإسلام ابن تيمية عالم مجتهد تعامل مع زمانه وجاهد في سبيل الله، فماذا يفعل بعض مدّعي الانتساب إليه هذه الأيام غير تخذيل الناس عن الجهاد في سبيل الله، وغير تفريق الصفوف بالتبديع والتفسيق وإرسال هذه الفئة إلى جهنم ومنح صك البراءة لتلك. نكرر ما قلناه سابقاً وسنظل نقوله، وهو أن من حق هؤلاء أن يقولوا إنهم الأكثر صواباً، لكن عليهم بالمقابل أن يعترفوا أنهم مجرد مذهب في فهم الدين فقهاً وعقيدة وأن رفعهم للواء الكتاب والسنة لا يمنحهم مفتاح الحقيقة لأن الآخرين أو أكثرهم في أقل تقدير، يستندون إلى الكتاب والسنة أيضاً، ولكن بتوازن يضع القرآن في المقدمة وليس السنة، سيما في أصول العقيدة. لقد عاشت الأمة منذ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي تختلف في مسائل العقيدة والفقه، وحين يدعي هؤلاء القدرة على صبها جميعاً في قالبهم فإنهم واهمون، سيما وهم الأقلية، ويبدو أنهم سيظلون الأقلية، كما كانوا طوال الأزمنة. الخلاف في مسائل العقيدة والفقه، لا سيما الفروع، سيبقى قائماً ويجب أن يعترف به، لأن سوى ذلك هو الدعوة إلى شرذمة صف الأمة. وهو ما يفعله للأسف كثير من أدعياء الانتساب إلى السلف، مع ضرورة الإشارة إلى أن تياراً جديداً ومهماً داخل هذا اللون الفكري قد بدأ يأخذ مساراً آخر يركز على وحدة الأمة ومواجهتها مع أعدائها كما هو حال الشيخ سلمان العودة وسفر الحوالي وسواهم في السعودية وخارجها. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني