تشرفت بإدارة النقاش على هامش المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد المنصف المرزوقي أمام ثلة من المثقفين والسياسيين والحقوقيين والفنانين باستضافة كريمة من الجمعية المغربية للعلوم السياسية ومنتدى الكرامة لحقوق الإنسان بداية هذا الأسبوع... كانت محاضرة تاريخية بجميع المقاييس بسط فيها أول رئيس منتخب للجمهورية التونسية بعد الثورة معالم قراءته للمرحلة التي يمر بها العالم العربي. منصف المرزوقي قبل أن يكون رئيسا فهو طبيب ومناضل حقوقي ديموقراطي عروبي،مثقف ملتزم بقضايا الأمة عانى من قمع النظام البوليسي لبن علي..حكى لنا كيف اضطر إلى تهجير أسرته من تونس إلى فرنسا حرصا على سلامتها من بطش النظام السابق..خبر سجون بن علي، لكنه لم يبدل ولم يغير..قاد مرحلة الانتقال الديموقراطي في تونس ونجح في بناء تحالف مع قوى سياسية مختلفة على أساس مهمة محددة وهي: العبور من مرحلة الانسداد والاستبداد السياسيين إلى مرحلة الديمقراطية الكاملة، نجح مع أحزاب الترويكا في وضع دستور جديد لإدارة المرحلة الجديدة وفي ضمان استمرارية المؤسسات الانتقالية وعلى رأسها المجلس الوطني التأسيسي وحماية الدولة من الانهيار، فضلا عن تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية للنظر في انتهاكات الماضي.. التشخيص الذي قدمه المرزوقي ينهل من معجم متشائم «فالدولة العربية الحديثة في حالة انهيار» و»المجتمعات العربية في حالة إحباط» و»الربيع العربي ليس ربيعا وإنما هو في الحقيقة عبارة عن بركان وزلزال» و»تردد الأنظمة للسلطوية في الاستماع إلى نبض الشارع أنتج خرابا ودمارا حقيقيا»...هذا الوضع لم تعد تسعف معه المفاهيم النظرية من قبيل الديموقراطية والتعددية والمواطنة باعتبارها الحلول السحرية للخروج من الواقع المأزوم، وسط تنامي النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية... الأزمة أعمق من المفاهيم ولكن جذورها هي جذور أخلاقية وقيمية بدرجة أساسية... يقول منصف المرزوقي : «أخلاقنا فسدت بفساد السياسة، وفي غياب دولة ديمقراطية تحترم الحقوق وتحارب الفساد وتعطي القدوة لا مجال للنجاح، والسمكة تخمج من رأسها، كما نقول في تونس، والسيد ليس من يعطي الأوامر بل من يعطي القدوة والمثل، وعلينا أن نكون هذا النوع من السادة.. الاستبداد أفسد المجتمعات أخلاقيا، والعودة إلى نظام ديمقراطي وتداول سلمي على السلطة هو الذي سيعيدنا إلى مربع الأخلاق، أي أن حل الأخلاق هو سياسي»..التركيز على الأخلاق بما ترمز إليه من التزام وسمو، يتجاوز المقاربة الأخلاقوية في معالجة مشكل الأخلاق.. تحليل عميق لتفسير فشل الثورات العربية في تحقيق أهدافها والاستجابة لانتظارات الشعوب التي خرجت للمطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية وقبل ذلك للمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد.. منصف المرزوقي كان واضحا في التأكيد على أن المخرج من الأزمة – بالإضافة إلى الجانب الأخلاقي – هو امتلاك الجرأة من طرف الحكام لمراجعة أسلوبهم في الحكم واتخاذ القرارات الإصلاحية الشجاعة.. بالنسبة للمرزوقي فإن «الوحيد الذي التقط اللحظة التاريخية وفهم أنه يجب التعامل مع منعطف حاسم هو محمد السادس، والدليل على ذلك هو الدستور الجديد والانتخابات التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم، وهذا هو الذكاء السياسي الذي يؤدي إلى إصلاحات تمنع انفجار البركان». هذه شهادة رجل دولة ومفكر على درجة عالية من الوعي السياسي والتجربة النضالية يستحق أن يستمع إليه، وتوقعاته ليست مبنية على الفراغ... موقفه من الأحداث الجارية في مصر ليس قابلا للالتباس، فالأمر يتعلق بانقلاب عسكري أطاح برئيس منتخب بطريقة ديمقراطية «والجنرال السيسي يتجه بالبلاد من نظام دكتاتوري إلى نظام فاشي» و»سيفشل في مهمة إدخال الشعب المصري إلى بيت الطاعة»... مع كل هذا الخراب والدمار المنتشر في أرجاء الوطن العربي، فإن المرزوقي يؤمن بقدرة الشعوب على تجاوز هذه المرحلة دون وصاية من الإيديولوجيات المعروفة اشتراكية كانت أو ليبرالية أو من حركات الإسلام السياسي... رئيس المؤتمر من أجل الجمهورية لا يخفي قلقه من التطورات الجارية في تونس، ولا يخفي انزعاجه من عودة النظام القديم، لكنه يؤمن ب»شعب المواطنين» كما يؤمن بأن مسار التداول على السلطة بواسطة الانتخابات أصبح راسخا في تونس ولا يمكن أن نعود إلى الوراء.. بين المبدئية والواقعية تتموقع أطروحة المرزوقي في إلاصلاح، دون تعصب لإيديولوجية محددة ودون انسلاخ عن مقومات الأمة وعمقها الحضاري...