«نصبتم لي فخاخا كثيرة في هذه الأسئلة عن بلدكم، لكني لن أقع فيها»، هكذا علق الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، على أسئلة المغاربة الذين حضروا ندوة ضيف المغرب بالرباط، محاولين أن يجروه للتعليق على طقوس حفل الولاء في القصر، وسوء الفهم الذي يطبع علاقة وزارة الداخلية مع الجمعيات الحقوقية المغربية. المرزوقي كان ذكيا، حيث رد قائلا: «أنا ضيف جلالة الملك وضيف هذا البلد العزيز، ولا أريد أن أكون مجاملا، لكنني لا أريد أن أكون متجنيا. تعرفون أفكاري، وتعرفون أنني أسست مؤتمرا من أجل الجمهورية، لكن الواضح أن الوحيد الذي التقط اللحظة التاريخية وفهم أنه يجب التعامل مع منعطف حاسم هو محمد السادس، والدليل على ذلك هو الدستور الجديد والانتخابات التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم، وهذا هو الذكاء السياسي الذي يؤدي إلى إصلاحات تمنع انفجار البركان». هذه شهادة طبيب ومثقف ديمقراطي ومناضل يساري ورئيس جمهورية عربية لم يخرج من قصر الحكم إلى القبر أو السجن أو المنفى، بل خاض حملة انتخابية نظيفة مع بقايا الحكم السابق في تونس، ولما خسر الرهان اعترف للقائد السبسي بالفوز، ورجع إلى عمله مناضلا من أجل العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والانتقال الديمقراطي والمصالحة الوطنية… على الجناح الرجعي في الدولة المغربية أن يعيد قراءة هذه الفقرة من محاضرة المرزوقي، وعلى الذين تزعجهم التجربة السياسية الحالية، ويتحرقون إلى سد القوس بسرعة، والرجوع إلى الاستبداد الناعم، أن يتأملوا صدى النموذج المغربي في الخارج بما له وما عليه. صحيح أنه نموذج في طور البناء، وفيه مد وجزر وصعود ونزول، لكنه نموذج قابل للتطور في مناخ عربي وإقليمي ليست الأنظمة فقط هي المهددة فيه بالانهيار، بل الدولة ومؤسساتها مهددة كذلك بالزوال. النموذج المغربي ليس معزوفة سياسية أو وصلة إشهارية ترددها الأبواق التي تدور في فلك الاستبداد والفساد، وتبحث عن مصالحها وامتيازاتها ورغد عيشها في إخفاء عيوب نظامنا السياسي وأعطابه. النموذج المغربي مشروع سياسي توافقي ديمقراطي، ينطلق من منطلقات إصلاحية ومنهج متدرج ومنطق يراكم المبادرات الكمية، إلى أن ينتقل إلى المرحلة الكيفية، أي دخول نادي الديمقراطيات العصرية حاملا معه كل مكونات الشعب المغربي دون إقصاء لأحد بدون عنف ولا دم ولا معتقلات ولا حروب أهلية… هذا هو النموذج المغربي الذي يتطلع العالم ليراه، وقد تحقق في المغرب على يد الملك والشعب والنخب ووعي أمة لها كل مقومات الفرادة التاريخية. تجتاز المجتمعات العربية والمغاربية ظروفا صعبة للغاية، فجل أنظمتها أفلست، وجل شعوبها منقسمة على ذاتها قبليا أو طائفيا أو إيديولوجيا، وجل نخبها رسبت في امتحان الديمقراطية، ولهذا انقلب الربيع بسرعة إلى خريف، كما فشلت من قبل الاتجاهات القومية والاشتراكية والليبرالية والإسلامية، فيما الغرب يتفرج على هذه الفوضى المنظمة، وتقديره أن هذه شعوب «بني يعرب وإيمازيغن» لا تستحق الديمقراطية، ولهذا عليها أن تحكم بالحديد والنار حتى يبقى خطرها بعيدا عن تهديد مصالح أوروبا وأمريكا. منصف المرزوقي صوت تونسي أصيل يستحق أن يسمع وأن يناقش، وأن يستفاد من تجربته وخبرته في تشخيص أعطاب الأنظمة السلطوية، وفي اقتراح حلول للخروج من الكارثة التي تدق أبواب كل الأنظمة العربية اليوم بلا استثناء. «الاستبداد أفسد أخلاق الشعوب»، هكذا يضع جراح الأعصاب يده على واحد من أمراض المجتمعات العربية.. يقول: «أخلاقنا فسدت بفساد السياسة، وفي غياب دولة ديمقراطية تحترم الحقوق وتحارب الفساد وتعطي القدوة لا مجال للنجاح، والسمكة تخمج من راسها، كما نقول في تونس، والسيد ليس من يعطي الأوامر بل من يعطي القدوة والمثل، وعلينا أن نكون هذا النوع من السادة.. الاستبداد أفسد المجتمعات أخلاقيا، والعودة إلى نظام ديمقراطي وتداول سلمي على السلطة هو الذي سيعيدنا إلى مربع الأخلاق، أي أن حل الأخلاق هو سياسي».. شكرًا المرزوقي…