من المعروف في تاريخ الدعم المالي الاميركي للفلسطينيين أن الولاياتالمتحدة لا تدعم جهاز السلطة الفلسطينية بشكل مباشر، وإنما تلجأ إلى تصريف هذا الدعم من خلال فريق الدول المانحة الدولي، وبهذه الآلية التحايلية أمنت الولاياتالمتحدة لذاتها ثغرة الهروب من التزاماتها الجدية ليس فقط تجاه الشعب الفلسطيني النامي بل حتى تجاه السلطة الفلسطينية المتبلورة نتاج اتفاق سياسي رعته هي بذاتها، ورغم أن السلطة الفلسطينية لبت الشروط الأمنية في العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المساعدات الاميركية كانت شحيحة، وبقيت مساعداتها محصورة في إطار الدول المانحة او صندوق النقد او تركزت في رفع الجاهزية الأمنية الفلسطينية دون أن يدرج او يذكر حجم هذا التمويل في الموازنات الرسمية، كل ذلك كان يؤشر على التالي: 1- إن السلطة الفلسطينية الناشئة لم تتلقى مساعدات اميركية تليق بحجم الثمن الذي قدمته في التسوية التي هي دون شك مصلحة اميركية، مما يؤكد أن الولاياتالمتحدة لا تعر هذه الأثمان العربية أي رعاية مقابلة او متبادلة. 2- أوهمت الولاياتالمتحدة السلطة الفلسطينية بجنة اقتصادية قبل التوقيع اوسلو، تبين فيما بعد ان كل ذلك مجموعة أكاذيب ورطت السلطة في انتفاخ اقتصادي أوهم الشعب الفلسطيني ياحلام سنغافورة الشرق الأوسط، و مع الوقت أدرك الشعب الفلسطيني أن أوضاعه الاقتصادية بعد التسوية سأت بدل أن تتحسن، وفاقم ذلك السوء الاحتكارات والفساد المتفشي في أجهزة ووزارات السلطة من جهة، وحجم الكادر التوظيفي المتضخم الذي سعى لحل مشكلة البطالة او ربط الولاء بالتوظيف، مما أدى إلى بطالة مقنعة تأخذ 50% من موازنة السلطة الكلية و68% من النفقات الجارية ، وهذا أحدث عجز سنوي يقدر ب500 مليون دولار خاص فقط بالنفقات التشغيلية التي لو توقف صرفها الآن لانهارت السلطة على الفور . 3- بالمقابل بقيت إسرائيل تستفيد من التهدئة المتحصلة نتاج التسوية المستجدة باوسلو ، من حيث حجم الاستثمار والعلاقات المنفتحة والتجارة الخارجية، والاهم أن الولاياتالمتحدة بقيت عند التزامها السنوي لإسرائيل و المقدر بثلاثة مليارات دولار ، موزعة 60 % للجانب العسكري و40 % للجانب الاقتصادي بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ناهيك عن البرامج الاقتصادية المشتركة والتسهيلات التجارية والائتمانية، وقروض طويلة الأجل، وبلغت حصيلة المساعدات المباشرة من عام 1989، حتى عام 2002 ( 42 مليار دولار)، وهو تقريبا أكثر من نصف المساعدات المقدمة منذ نشوء إسرائيل عام 1948 والتي بلغت 83 مليار دولار. 4- في محطات مختلفة لاسيما في هبة النفق الفلسطينية، تدخلت الولاياتالمتحدة سياسيا لتقويض دعم المؤسسات والدول المانحة لإجبار السلطة على تعديل سلوكها الأمني والسياسي تجاه إسرائيل، والشواهد على ذلك كثيرة . أوجه المساعدات الاميركية توجه مجمل المساعدات الاميركية فقط إلى المنظمات غير الحكومية الفلسطينية ، وهي بالمناسبة لم تتجاوز منذ سنة 1996 وحتى الآن، مبلغ 900 مليون دولار، وهذا بالطبع رقم سخيف تجاه المعاناة الفلسطينية التي تخسر (يوميا) بعد انتفاضة الأقصى 11 مليون دولار في القطاعات المختلفة - حسب إحصاءات الأممالمتحدة - ، ويمكن حصر وجهة هذه المساعدات بالبنود التالية: 1- التزام سنوي من خلال وكالة غوث اللاجئين (تعليم وصحة وتدريب وإصلاح ضرر) يبلغ 88 مليون دولار ارتفعت إلى 128 مليون دولار بعد انتفاضة الأقصى، وهذه المساعدات بالكاد تؤمن الاحتياجات الأساسية للاجئين في وطنهم، وحتى هذا التمويل جوبه بالكثير من التشكيك الإسرائيلي بعد تحول المخيمات الفلسطينية لمعاقل المقاومة، فضيقت الولاياتالمتحدة تصرف الوكالة في هذا الدعم من خلال التدقيق في هوية المستفيدين من جهة، وعدم إصلاح أضرار بيوت المقاومين او عوائلهم مثلا . 2- التزام سنوي من خلال وكالة التنمية الاميركية يبلغ 75 مليون دولار، ارتفع إلى 120 مليون دولار ، يوجه اغلبه للقضايا الفكرية والتطويرية والإصلاحية طبعا حسب المفهوم الاميركي لكل هذه المعطيات . 3- بعد انتفاضة الأقصى أيضا جرى توجيه20 مليون دولار مباشرة للسلطة في عهد حكومة أبو مازن،هي الأسبقية الأولى في توجيه المال بشكل مباشر . 4- بعد انتفاضة الأقصى جرى تبني العديد من البرامج الصحية والبنى التحتية بلغت ما يصل إلى 100 مليون دولار . من خلال ما تقدم نستطيع استنتاج التالي: الأول - أن هذه المساعدات هشة ولا يمكن أن تساهم في إنتاج اقتصاد فلسطيني يناسب الاولويات او التنمويات الحقيقة، كون التمويل مشروط بتطابقه مع البرامج والمصالح الاميركية وليس الحاجات والاولويات الحقيقية. الثاني - ما بعد انتفاضة الأقصى نستطيع أن نرصد توجهات مالية اميركية انحرفت عن البرامج السابقة وحاولت محاكاة بعض جوانب المعاناة الفلسطينية مع الحرص الشديد على عدم مساعدة المقاومين الفلسطينيين ويمكن رصد أسباب الانحراف الاميركي الطفيف عن السياسات السابقة في سعة التمويل او أشكاله (ما بعد انتفاضة الأقصى ) إلى التالي : 1- الخشية من انهيار السلطة والحاجة الى الحفاظ على جيش المنتفعين منها بدل تحولهم إلى جيش من المقاومين، وهذا قريب جدا من الفلسفة الإسرائيلية التي تسعى إلى التهرب من الأعباء المدنية رغم سيطرتها الفعلية على كل مفاصل الحياة الفلسطينية ، بحيث تبقيها مشلولة سياسيا ، وضعيفة امنيا بمقدار او حدود تصديها للمقاومة الفلسطينية . 2- الحرب الاميركية والإسرائيلية على الجمعيات الإسلامية في الداخل والخارج، والحاجة إلى خلق بديل يعتمد عليه يبقى التمويل بيده يحدد لمن يعطي ولمن لا يعطي . 3- الخشية من تفرد الجمعيات الإسلامية في مساعدة الفلسطينيين المتضررين، وبالتالي قدرتها على تامين بنية اسنادية للمقاومين، وخلق بديل اجتماعي وارث لنظام السلطة الفلسطينية المتآكل. إشكالية الدعم الاميركي للمنظمات غير الحكومية الغريب أن الولاياتالمتحدة تخلط عمدا بين دعمها للشعب الفلسطيني والمنظمات غير الحكومية فتحسب هذا على ذاك ، ووجه الاعتراض لا يتعلق بالدعم الاميركي لتلك المنظمات، ففي الوضع الصحي ذلك هو المسار الأفضل، ولكن علينا أن نعيد النظر قبل تصنيف هذا الدعم، وكأنه دعم يصل لفئات الشعب المتضرر، من حيث : 1- طبيعة البرامج التي يريدها الاميركان تتعلق غالبا باجندة مشوهة تتعلق بالتطبيع والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المراة والبرامج التدريبية، ورغم اهمية هذه العناوين في الشعوب المعافاة من ظروف الاحتلال، إلا أن الإلحاحية تبقى لإغاثة الشعب المتضرر يوميا ، وللأسف فان العديد من المنظمات الفلسطينية التي كانت تحاكي التمويل أكثر من محاكاة مدى الضرورة والحاجة ، ساهمت في ذلك التشويه، من حيث درت او لم تدري . 2-إن الكثير من موازنات هذه المشاريع تذهب إلى بنود الإداريات التي تتضخم لدى بعض المنظمات الفلسطينية لتصل إلى 70%، مما يعني أن المستفيد بالدرجة الأولى المنظمة وبقائها واستمرارها وليس الشعب الفلسطيني. 3 – عندما حاولت السلطة سنة 1999 السيطرة على التمويل الذي تحصله تلك المنظمات والذي يصل سنويا إلى 200 مليون دولار فشلت نتاج تدخل اميركي حاسم رغم علاقة السلطة الجيدة بالاميركان في ذلك الحين ، ورغم إدراكنا أن غاية السلطة السيطرة على هذه الموارد أكثر من رغبتها في محاربة تلك المنظمات ، إلا أن فشلها يؤشر على مدى الاهتمام الاميركي بتكريس هذا التمويل بأجندته ذات الإشكالية . مخاطر الاشتراطات الجديدة الخطوة الجديدة التي سعت إليها الولاياتالمتحدة من خلال وكالة التنمية الاميركية، هي إضافة بند على شكل وثيقة يلزم الجمعيات او الهيئات صراحة “ بعدم تقديم أي دعم مادي او أية موارد لأي فرد او هيئة تعلم او بوسعها أن تعلم بأنها تدعو إلى او تخطط او ترعى او تشارك او أنها قد شاركت في النشاط(الإرهابي)....وتشكل هذه الشهادة احد الأحكام والشروط الصريحة للاتفاقية وأي خرق لها سيشكل أساسا لإنهاء الاتفاقية بشكل انفرادي من قبل الوكالة الاميركية للتنمية الدولية قبل انتهاء مدتها. من الواضح أن التفصيل الفني والتدقيق اللفظي لمصطلح(الإرهاب )حسبما جاء قصد منه عدم وجود أي فسحة او هامش للتهرب منها ،.. كون المطلوب هو ابعد من التوقيع على وثيقة روتينية ويتمثل بالتالي : 1- إخضاع الجمعيات الفلسطينية للشروط السياسية والمفاهيم الاميركية حول الإرهاب، الذي يعني حسب قانون الإرهاب الاميركي تنكر تلك الجمعيات لمقاومتهم المشروعة التي تصنفها اللوائح الاميركية كإرهاب ممارس ضد دولة مسالمة وآمنة ، وليس ضد احتلال. 2- تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية، بعد ضرب إسنادهم من قبل الجمعيات الإسلامية، المطلوب أيضا إغلاق كل المنافذ التي يمكن أن يستفيدوا هم او أقاربهم منها . 3- التهديف السياسي الكلي إجبار الفلسطينيين على تحسس مدى الثمن الذي يمكن أن يدفعوه إذا ما استمروا بالانتفاضة او بتامين الدعم الشعبي لها، بحيث يصلوا إلى لحظة الإنهاك والاستسلام فبعد محاصرتهم سياسيا يأتي حصارهم اقتصاديا بحيث يصبحوا عالة على المساعدات الاميركية بالشروط التي يتنكرون فيها لمقاومتهم وحقوقهم. 4- لقد حصلت إسرائيل على تنكر فلسطيني رسمي لبعض فعاليات المقاومة ولاسيما عمليات العمق، والمطلوب الآن إخضاع المؤسسات الأهلية لذات المنطق، بما يحاصر شرعية أعمال المقاومة رسميا وأهليا. 5- إن الآثار الخطرة لهذه الوثيقة ستأتي مع تقدم الزمن، حينما يتدخل المزاج الاميركي العلني والإسرائيلي الخفي في الوقوف على كل فعل او قول لهذه الجمعيات، وربما غدا التدخل في كادرها وموظيفها وقوائم المستفيدين منها، وربما مطالبتها غدا في استنكار عمليات المقاومة ونبذها، والانخراط الواضح في تأييد كل المبادرات السياسية الاميركية...وهكذا المواقف الفلسطينية تجاه تلك الاشتراطات اتسمت تلك المواقف بالتالي: 1- التأخر في التحرك وبعد أن تورطت الكثير من الهيئات والجمعيات بالتوقيع على هذه الوثيقة بقصد او بدون قصد سوى بحجج الجهل بخطورتها او مراعاة لإشكالية توقف الدعم الاميركي عنها مما قد يعني نهايتها . 2- موقف السلطة الرسمي ذا إشكالية في ضوء ان تنكرها علنا للإرهاب لايمكنها من مقاومة الوثيقة او ومعارضتها كونها تخشى ازدياد حنق الاميركيين عليها. 3- تحرك القوى الفلسطينية ضعيف في التحذير من مخاطر الوثيقة، في ضوء تصورها المسبق والقائم على فلسفة (( أن هذا التحرك الاميركي متوقع وغير مستبعد)) وربما يخشى البعض(( أن يظهر بمن يذرف الدموع على دعم اميركي هش ومختل)). كل ذلك يدل على تلكؤ وأحيانا عجز التحرك الفلسطيني الرسمي والأهلي وحتى الشعبي ، ورغم اليقظة المتأخرة لبعض القوى والفعاليات السياسية والأهلية، إلا أن التحرك بقي ضعيفا وأوليا، وبرأينا أن استحقاقات الخطورة سيجري تلمسها مع مرور الوقت ولعل الخطوة الاميركية الأخيرة دليل على ما نذهب إليه فقد أوردت (القناة الثانية في التلفزيون الفلسطيني أثناء إعداد هذا المقال ) إن الإدارة الاميركية هددت السلطة الفلسطينية بوقف دعمها للمنظمات غير الحكومية إذا لم يجري تسليم ثلاثة نشطاء فلسطينيين متهمين بتفجير الموكب الاميركي العائد من غزة قبل شهرين، مما أدى إلى قتل ثلاثة حراس اميركيين . من المهم القول في نهاية كل ما تقدم ...إن الإشكالية ليست فيما يريد الدعم الاميركي او شروطه، فهذا معروف لكل قارىء ألف باء السياسة، الأهم ماذا نريد نحن كعرب وفلسطينيين ؟ والى أي حد نحن واعين لما يريدون ؟ وكيف يمكننا ترجمة ما نؤمن به إلى برامج . إبراهيم أبو الهيجاء باحث وكاتب فلسطيني