3 المصالحة مع المعرفة : من البداهة التي لا توجب حججا ولا تأصيلا، أن يكون التمكّن المعرفي والعلمي قاعدة أساسية لسلامة وفعالية أي عملية خلاص فردي أو جماعي، ولكل مسار تغييري ذاتي أو أممي. ولقد عانت الحركة الإسلامية الإصلاحية في مجموعها وفي جل الأقطار، وفي عديد فتراتها السابقة واللاحقة إلى خفوت الجانب المعرفي في هياكلها، وبروز أفراد جعلت منهم الخطابة أو الفصاحة، أو سنون المحنة والمعاناة، شخصيات الصفوف الأولى، وخنادق الصدارة، ودروع الدفاع والبناء والتشييد. فكانت الشرعية التاريخية، والشرعية الكلامية، والشرعية المحنوية، وغابت نسبيا شرعية الكفاءة والمعرفة، والإلمام بمتطلبات العلم الشرعي والوضعي، ومقتضيات فقه الواقع الجديد والمتجدّد. إن الأمية الشرعية والعلمية لا تُنشأ سوى ثقافة تغييرية منقوصة وتكوينا فرديا مهزوزا، وليس عجيبا أن ترى أن أغلب الطاقات الفكرية التي برزت على الساحة الإسلامية، والتي ساهمت في بناء اللبنات الأولى للمشروع الحضاري الإسلامي، كانت في مجموعها خارج نطاق الحركات، نذكر منها د.جمال الدين عطية، الشيخ يوسف القرضاوي، المستشار طارق البشري، فهمي هويدي، محمد الغزالي، عادل حسين، د.محمد عمارة، د.جابر العلواني وغيرهم كثير. ولقد كان للأزمات المتلاحقة والشديدة، التي عاشتها الحركة الإسلامية الإصلاحية ، تأثير أساسي ومباشر في ضمور الجانب المعرفي والدراسي، وغلبة فقه المحنة، الذي يملي الحفاظ على الجسم وتجنيد الخطاب الحقوقي، والدفاع عن المنفي والمحبوس والمشرَّد، وإغاثة الملهوف واليتيم والعائل والأرملة. ولم يكن ممكنا التفرغ للهمّ الدراسي والفكري رغم المحاولات الطيبة لبعض الأعمال الناجحة من هنا وهناك. وإذا كان هذا يشفع لذاك، فإن المصالحة مع المعرفة والفكر، تملي تجاوز ارتهان الفكري والمعرفي بما يتعرض إليه الجسم من مصادمات ظرفية أو هيكلية مع الواقع. فالنقلات المعرفية والمنهجية التي أحدثها الإسلام في عقلية العرب طوال فترات الوحي، لم يضمر مسارها أو ينحبس مدرارها أو يتوقف بنائها، في أيام المحنة و أيام النعمة. لأن المعرفة والعلم مطلب حضاري، مبدئي وهيكلي واستراتيجي، وليس تكتيكا أو ظرفا أو نفحة عابرة. "منذ الضربة الأولى في كتاب الله، الكلمة الأولى، نلتقي بحركة التحول المعرفي هذه[اقرأ باسم ربك الذي خلق]... وعبر المسيرة الطويلة، مسيرة الاثنين والعشرين سنة، حيث كانت آيات القرآن تتنزل بين الحين والحين، استمر التأكيد نفسه لتعميق الاتجاه، وتعزيزه والتمكين للنقلة، وتحويلها إلى واقع يومي معاش"[[1] ]. كما لا يجب أن تكون التصورات الفكرية التي يحملها المشروع الإصلاحي حبلى بالمآسي، ولا أن تكون الأفكار والأطروحات زنزانات فكرية[[2] ]، من خلال الاستناد على إرث المعاناة والرحلات الطويلة مع السجون، فتغيب العقلانية وتضمر الموضوعية وتحل العاطفة وردة الفعل والسواد، بدل النصوعة والفعل والإبداع، ويعلو فكر الزنزانة بقتامته وجروحه وأهواله، على فكر الواقع والتجاوز والبناء. وعلى محك الواقع، فإن تواجد مؤسسات داخل الجسم أو مستقلة خارجه، وتحمل هم ّ الطرح الفكري والمعرفي، يمثل طلبا حياتيا للمشروع، وعامل إثراء ودفع داخل المجتمع، ولبنيته الفكرية، والمساهمة في تركيز ديمقراطية التعدد الفكري والتنوع الأيديولوجي. وقديما قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة :"العلم شئ لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذ تعطيه كلك من إعطائه البعض على غرر." 4 المصالحة مع الآخر داخل المؤسسة (ديمقراطية الحراك) : لم يكن الاختلاف يمثل عيبا أو عثرة وعائقا لنهوض مشروع وتقدمه، وقد حفلت نصوصنا المقدسة وتاريخنا الحضاري، بالعديد من النماذج والممارسات التي تؤكد هذا المسعى الذي وصل حدّ الحق " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم " [هود 118119] [[3] ]. ولم تستثني الحركات الإسلامية المعاصرة هذا الجانب في تنظيراتها، ومنذ لحظاتها الأولى يعلن رائدها الأول حسن البنا بكل وضوح " ليس العيب في الخلاف ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم " [[4] ]. غير أن العديد من الترهّل برز من هنا وهناك، ولعله يمثل عنصر وعي وتجاوز وصحة. وهو يملي تجذيره، عبر تعميق جانب المؤسسة وآلياتها، من شورى، وحق الاختلاف المؤسَّس، والاحترام المتبادل، والصوابية النسبية للرأي والرأي الآخر، والأخوة الجامعة التي تعلو فوق كل اختلاف أو خلاف أو شقاق. إن عدم الاعتبار لحق الاختلاف داخل المؤسسة واستبعاده، يمثل تهميشا لتنوع الرؤى المثرية للمشروع، وكبتا للطاقات، واستدراجها بوعي أو بغير وعي، نحو السكون والركون، أو مغادرة المؤسسة، أو حتى نبذ المشروع والارتماء داخل أطر أخرى أو مؤسسات بديلة. وهذا يؤدي عاجلا أو آجلا إلى انتفاء التفاعل والتدافع والتناظر، وبقاء الرأي الواحد والطرح الواحد والتصور الواحد والطابور الواحد، ومن ثمة الضمور المتدرج للمشروع لاستنفاذ طاقاته الواعية والفاعلة. "قال سليم بن حنظلة : بينما نحن حول أبي كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال : انظر ياأمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال عمر (رض) : إن هذه ذلّة للتابع وفتنة للمتبوع."[[5] ] 5 المصالحة مع الطاقات المهدورة (ديمقراطية العمل) : لقد مرّ على الحركة الإسلامية الإصلاحية حين من الدهر، نتيجة عوامل داخلية وخارجية، تواجد فيها العديد من الطاقات خارج فضائها، نذكر منها : الطاقات المعطلة، وهي التي لم يقع استثمار قدراتها المعرفية المتفجرة، فآثرت الانزواء والانتظار، والانسياق وراء طلب الرغيف والارتزاق، أو التواجد في منتديات وجمعيات فكرية وحقوقية، للتخلص ولو بحدود من داعي الفعل والتأثير. ومنها الطاقات الخائفة، وهي التي هالها ما وقع من رعب وعدوان، فاستأمنت لنفسها بالبقاء خارج فضاء المواجهة وفضلت الصمود على طريقتها، في انتظار أيام أفضل وأحوال أهدأ. فسعت إلى الحفاظ على تدينها ولو في مستواه الأدنى من شعائر و عبادات وقيم وفضائل ولو بصعوبة أحيانا. ومنها الطاقات اليائسة، وهي صنفان، منها التي غلب عليها القنوط والتشاؤم، لهول المأساة وسرعة الانهيار وضبابية التصورات والممارسات، فآثرت الانطواء وطي صفحة المشروع نهائيا، والاستقالة من الفعل، والتوجه إلى أعمالها الخاصة، لتصبح عنصرا عاديا في المجتمع، يسعى بكل جهده إلى الذوبان فيه فكرا أو ممارسة أو الاثنين معا. أما الصنف الثاني فهو على نقيض الأول، طاقات تتقد عملا وتلهفا على الفعل، غير أنها وصلت من خلال مراجعاتها وتقييماتها إلى يأس من تمكين أفكارها وتمكن مشروعها الذي آمنت به ولا زالت، عبر إطارها الأول، في ظل داخل متعنت وخارج رافض، فآثرت الالتحاق بأحزاب سياسية معارضة حاملة معها لغزها وهمومها، وآملة أن ترى من خلالها تنزيلا للبعض من أفكارها وتصوراتها[[6] ]. ومنها الطاقات الفاعلة، وهي التي غادرت المؤسسة الأمّ ولم تغادر المشروع، وحاولت التعبير عنه من خلال نوافذ تأثيرية مباشرة تمتلكها أو تشارك فيها، مثل الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت والفضائيات. وهي نوعية ناشطة، وجدت في الاستقلالية والحرية الفردية إطارا جذابا لها ولإبداعاتها. لكن هذه العزلة المفروضة أو المختارة لن تلبث أن تكون عنصر تثبيط وعدم فاعلية مرجوة، في مقابل قوة الجماعة وإمكانياتها ومدى تأثيراتها. ومنها الطاقات الشاذة، وهي التي غُلبت على أمرها، فخلطت بين انتماءها للدين كشعائر ثابتة ومعتقدات راسخة، وبين اجتهاد في التنزيل وتدافع في التمكين. فانسلخت من هذا وذاك، وارتمت في أحضان النموذج الغالب، انتماء قناعة أو انتهازية، وركبت أمواجه. فمنها من عادى مشروعه علنية، ومنها من اكتفى ب "نجاته" الفردية. كل هذه الأصناف من الطاقات المهمّشة، المتعددة الاختصاصات والإمكانيات، والمختلفة التصورات والممارسات، والتي ضمر دورها وقلّت فعاليتها أو غابت ذاتها، لا يجب التنازل عنها وتركها لنفسها، أو لغيرها حتى يستثمر قدراتها وتاريخها، ويوظف أفكارها وممارستها بعيدا عن المشروع. وإلا فهو إهدار لرصيد يندر وجوده، صقلته التجربة والمعاناة، وجمعته لفترات، أخوة ومآخاة، وتاريخ ومسؤوليات. والمصالحة معه ضرورة حياتية للمشروع، وشهامة وترفّع ومروءة وتواضع وتسامح، وكسر للأنا، وتأكيد للبعد الرباني للعمل ومنهجيته وأهدافه. 6 المصالحة مع أطراف المشروع الإسلامي (ديمقراطية التواجد) : ليس عيبا أو انتقاصا للمشروع، أن تتعدد رؤى حامليه وتتنوع تصوراتهم حول مراحل تنزيله وأولويات تمكينه أو حتى في منهجياته. فالمشروع الإسلامي الحركي اجتهاد بشري، يقبل التنوع داخله وخارجه، والولاء لأحد ممثليه ليس ولاء للإسلام، بل هو انتماء لتصورات ولرؤى في التغيير والتمكين والبناء. واختلاف المقاربات والبرامج وحتى المنهجيات، هو تنويع للمشروع وإثراء له. فليس انتقاصا أو حيفا أن يكون للمقاربة السياسية جماعتها، وللدعوية مجموعاتها، وللروحية أفرادها وذويها، وليس خطأ أن تتعدد داخل الإطار الواحد الرؤى، فنجد في السياسة الجماعات الإصلاحية المتعددة تختلف عن بعضها في المنهجيات أو في الأطروحات والعلاقات، مع ثبات المبدأ الجامع للجميع والإطار السلمي للتغيير وثبوت الهدف الأسمى لمشاريعهم وهو الحياة الطيبة للفرد والمجتمع ورفاهيتهم دينا ودنيا. لكن العيب الصارخ والخطر الفادح، أن يتحول التنوع إلى تشرذم وتشتت وتقوقع وصدام، ينتهي إلى هزيمة كل الأطراف. فتذهب ريحهم، ويخسر الجميع شرف حمل المشروع الرباني وأفضليتهم واصطفائهم دون غيرهم، لتتم عملية الاستبدال لاحقا، في انتظار جيل آخر، أو جماعة أخرى، يكون لها شرف الحمل من جديد. ولتجنب هذا النزيف القاتل والمخزي، فإن تجميع هذه الأطراف على خطوط عريضة دون المس باستقلاليتها، يصبح واجبا شرعيا وملاذا منجيا، وحالة سليمة ومجدية، لتقبّل التنوع في ظل الوحدة، وحدة أهداف وقواعد أساسية وخطوط رئيسية. وهذا ما يمثله " اللقاء الإسلامي " الذي يجمع كل أطراف المعادلة الإسلامية من صوفية وتبليغ ودعوة وسياسة وغيرها. وهذا ما عنته آية التمكين في سورة الحج " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور". فجعلت هذه الرباعية أساسا لخطاب التمكن والتمكين والذي يمثل حسب فهمنا أساسا تجميعيا يجمع كل الأطراف التي عنيناها، من أبعاد رئيسية وغير مفصلة، روحانية وأخلاقية (إقام الصلاة)، إلى اجتماعية اقتصادية (إتيان الزكاة)، إلى سياسية ثقافية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). د. خالد الطراولي مدير تحرير مجلة مرايا باريس -يتبع- ------------------------------------------------------------------------ [1] د.عماد الدين خليل " حول إعادة تشكيل العقل المسلم" كتاب الأمة، الطبعة الثانية، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر، 1403هج، ص :42. [2] المصطلح لعبد الله النفيسي وهو يتحدث عن فكر سيد قطب في مرحلة "معالم في الطريق" في "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي" القاهرة مكتبة مدبولي 1989، ص:258. [3] انظر بأكثر التفاصيل طه جابر العلواني " أدب الاختلاف في الإسلام " المعهد العالمي للفكر الإسلامي الطبعة الخامسة الولاياتالمتحدة 1992. [4] حسن البنا " مجموعة رسائل الإمام حسن البنا " المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر بيروت، الطبعة الثالثة 1984 ص: 124. [5] أبو حامد الغزالي "إحياء علوم الدين" ج 14 ص:2713. [6] في الحقيقة فإن هذا الصنف الثاني لا يمكن تحديد إطاره بكل وضوح نتيجة غياب التوضيح من أصحابه، ونحن أدمجناه في الطاقات اليائسة من تمكن مشروعها أمام ضغوطات الداخل ورفض الخارج، واستبعدنا كل تكتيك أو مناورة منهم كما يراه بعضهم.