يمكن اعتبار السنة التي ودعناها قبل أسبوعين كأطول سنة في عمر الحكومات التي تعاقبت على المغرب، ليس لأن اليوم كان فيها 48 ساعة ولكن لأن عدد الأوراش التي فتحت والمحطات الكبرى التي عاشتها بلادنا كان كبيرا، بحيث أن المغرب وضع على أعتاب مرحلة جديدة اتفق الجميع على أنها مرحلة ما بعد 16 ماي التي أحدثت اهتزازا سياسيا وأمنيا ما تزال ذيوله قائمة، وقد حدثت تلك التفجيرات الدموية في الأشهر الأربعة الأولى لحكومة إدريس جطو، ليرى البعض في ذلك عنوانا على الاختبارات القوية التي ستعترض عمل الحكومة. وخلال الشهورالثمانية التي تلت، دخل المغرب منعطفات عدة أشرت إلى عمق التحول الذي طرأ. فقد كانت السنة الماضية سنة الملاحقات الأمنية المكثفة على خلفية تفجيرات البيضاء، والإصلاح الديني الذي تقدم به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما كانت بامتياز سنة المدونة الجديدة والانتخابات الجماعية في ظل ميثاق جماعي جديد ومجالس المدن وقانون الأحزاب السياسية ومدونة الشغل واتفاق 30 أبريل بين الحكومة والنقابات، وفتح فيها ملف المخدرات فيما سمي بقضيةمنيرالرماش ومن معه، وشهدت إنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة والهيأة العليا للسمعي البصري، والعفو الملكي عن دفعة من السجناء السياسيين، وإلغاء محكمة العدل الخاصة في مستهل السنة الحالية. غير أن كل هذه المحطات التي عاشتها بلادنا في فترة الحكومة الحالية غطت على هذه الأخيرة، بحيث بدا للكثيرين أن الحياة السياسية تتحرك بعيدا عن قائمة ال 38 وزيرا في فريق إدريس جطو، وأن سرعة التطورات تتجاوز الوتيرة التي تمشي بها حكومة مثقلة بالحسابات السياسية والحزبية. حكومة تكنو سياسية بالعودة إلى الانتخابات التشريعية التي نظمت في 27 شتنبر ,2002 فإننا سوف نجد أن النتائج الانتخابية أعطت خارطة سياسية مشتتة لم تمكن من فرز كتلة حزبية منسجمة قادرة على قيادة الحكومة، مما فتح الباب على مصراعيه للتكهنات والتخمينات عن الحزب الذي ستناط به هذه المهمة. واشتد النقاش داخل الأحزاب السياسية وخاصة في حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، لينطلق التنافس الخفي على تشكيل الحكومة، غير أن مبادرة جلالة الملك محمد السادس بتعيين وزير الداخلية إدريس جطو وزيرا أولا في نوفمبر 2002 فاجأت التشكيلات الحزبية التي رأى بعضها في تعيين رجل تكنوقراطي في منصب الوزير الأول تحولا عن القاعدة التي أرستها مرحلة التناوب التوافقي وتعيين رأس الحكومة من الطبقة السياسية والأغلبية البرلمانية، وهذا ما ظهر على سبيل المثال في الموقف العلني الذي اتخذه الاتحاد الاشتراكي حينما انتقد في بيان له الطريقة التي تم بها تعيين الوزير الأول وعبر عن خشيته من يكون ذلك انقلابا على عملية الإصلاحات التي أطلقتها حكومة التناوب منذ عام .1998 هذا الوضع جعل مفاوضات جطو لتشكيل فريقه الحكومي صعبة، بحيث امتدت فترة المفاوضات لتربو على شهر كامل تقريبا، تطلبت من رجل الأعمال صاحب الخبرة الفنية في إدارة المفاوضات بذل جهد للحصول على تسويات ترضي الأحزاب السياسية، وكانت النتيجة حكومة من 39 وزيرا بمن فيهم جطو نفسه، أعطت الانطباع لجميع المراقبين بأنها محصلة ترضيات لتخفيف التوتر داخل الأحزاب وتلبية رغباتها، والمؤشر الواضح على ذلك هو اقتطاع بعض الاختصاصات من وزارات معينة وتحويلها إلى كتابات للدولة، تمت برمجتها لإسكات الغاضبين. ولا شك أن العدد الكبير من الوزراء وكتاب الدولة والانتماءات الحزبية(6 أحزاب) في حكومة جطو شكل عامل إعاقة لها بأكثر مما سرع من أدائها، خاصة مع ما كان يتسرب في بعض المنابر الإعلامية عن وجود صراعات وتنازع في الاختصاصات بين الوزراء وكتاب الدولة المرتبطين بملفاتهم، هذا علاوة على تداخل الانتماءات فيها بين التكنوقراط والحزبيين مما جعلها حكومة تكنو سياسية، ورفع من صعوبة الوزير الأول في تدبير الاختلافات في فريقه وتحقيق حد مقبول من الانسجام. وقد كانت الانتخابات الجماعية التي أجريت في شهر شتنبر الماضي محكا وضع عائلة جطو الحكومية أمام اختبار الانسجام والصلابة الداخلية، حيث كشفت تلك الاستحقاقات عن خلل في التركيبة بحيث أنها فضحت هاجس التسابق بين الأحزاب على عمدية المدن، وذلك على حساب التعايش داخل الفريق الحكومي، وظهر أن ربان السفينة غير متحكم في زمام الأمور فيها، كما عبر جطو نفسه عن ذلك بنوع من المرارة في عشاء المناقشة الذي نظمه ببيته في شهر أكتوبر المنصرم منوها إلى أن ما حدث سيكون موضع تقييم داخل الحكومة، بل إن تلك الانتخابات وما جرى فيها من انزلاقات أبانت عن تغلغل الهاجس الانتخابوي لدى الأحزاب السياسية سواء داخل أو خارج الحكومة، وهو ما عكسه الأستاذ عبد الإله بنكيران حينما قال في تصريح سابق له بأن الكثيرين ممن شاركوا في تلك الانتخابات كان يمكن أن يكونوا في أي حزب من الأحزاب الموجودة في الساحة، دون أن يؤثر ذلك على الفوارق الايديولوجية بين الأحزاب. الحكومة... ورجال الملك من المؤكد أن حكومة جطو قد عاشت خلال السنة التي انصرمت من عمرها نوعا من الغياب عن الملفات الكبرى التي فتحت في هذه المرحلة، إذ الملاحظ أن بصمات الحكومة غابت في أكثر من ملف من هذه الملفات التي جرت إحالتها على جهات أخرى، مما يطرح معه السؤال: هل يعني ذلك أن تدبير مرحلة ما بعد 16 ماي أمر يتجاوز الحكومة؟، فمرحلة ما بعد تفجيرات البيضاء أعطت الأسبقية للهاجس الأمني، وأصبحت عملية التحكم في ذيول المرحلة من اختصاص المصالح الأمنية المختلفة وجهاز مراقبة التراب الوطني، وخلال الحملات الأمنية في مختلف مدن وأقاليم المملكة بدا أن هذا الجهاز هو وحده الذي يتصدر واجهة المسرح بينما اختفت الحكومة، وظهر جليا إثر التعديلات التي أدخلت على مختلف أسلاك الأمن في شهر غشت الماضي أن الحكومة غير معنية، إذ أن المستشار الملكي أحمد مزيان بلفقيه لعب الدور الأبرز في اقتراح الأسماء الجديدة، وقد طرح ذلك مسألة تتعلق بالأدوار التي يلعبها مستشارو جلالة الملك في تدبير القضايا السياسية ذات العلاقة بالشأن العام، كما ظهر خلال التصريحات التي نسبتها يوميةالشرق الأوسط اللندنية خطأ إلى أحد نواب الاتحاد الاشتراكي في الغرفة الأولى قبل أشهر قليلة ردا على تصريحات للمستشارة الملكية زليخة نصري في برناج حواري بالقناة التلفزية الثانية بشأن حدود صلاحيات مستشاري الملك. لكنرجال الملك لم يكونوا وحدهم من حجب صورة حكومة جطو و38 وزيرا، ذلك أن تدخلات الهيئات الموازية التابعة للدولة مثل صندوق الحسن الثاني للتنمية ومؤسسة محمد الخامس للتنمية وغيرهما زادت من اقتطاع المساحة المخصصة للحكومة لتصبح مهمة هذه الأخيرة قاصرة على تدبير اليومي. البحث عن الحصيلة بعد أزيد من عام على تنصيب حكومة إدريس جطو يظل السؤال عن الحصيلة مثار نقاش بين مختلف الفرقاء السياسيين والاقتصاديين، البعض يتذرع بكون سنة واحدة من عمر حكومة لا تزال أمامها بضع سنوات ليست كافية لإصدار حكم عليها، فيما يقول البعض الآخر أن السنة التي انقضت من عمرها كانت سنة استثنائية بالنظر لما حدث يوم 16 ماي في الدارالبيضاء، لكن البعض الآخر يرى أن تعليق القضايا والأوراش الهامة على التفجيرات أو التذرع بعامل المدة الزمنية ليس مبررا في ظل ظرفية حرجة تجتازها بلادنا على كافة الأصعدة والمستويات، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومنها الخارجي الذي يرتبط بقضية الوحدة الترابية للمغرب والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي ورهانات الشراكة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ستقود إلى إنشاء منطقة للتبادل الحر بيننا وبينها. لقد ورثت الحكومة الحالية مجموعة من الأوراش التي كانت الحكومة السابقة لعبد الرحمان اليوسفي قد فتحتها دون أن تستكملها، على رأسها ورش الإصلاح القضائي والإداري وإرساء الليبرالية الاقتصادية عبر القيام بإصلاحات في الترسانة القانونية لجلب المستثمرين وتشجيع الخواص على الاستثمار، وحمل تصريح الوزير الأول إدريس جطو أمام البرلمان بعد تشكيل الحكومة أوراشا جديدة، أهمها الملف الاجتماعي المتعلق بأزمة السكن والقضاء على البطالة، وهي القضايا التي لم تعد تقبل التأجيل في مغرب يتحرك بسرعة وقوة وأصبح منخرطا في معترك العولمة التي زادت من الشعور لدى مختلف الفئات الاجتماعية بالتفاوت والفجوات المتسعة بين هذه الفئات. ولكن الملاحظ هو أن هامش التدبير الحكومي لهذه الملفات والأوراش ظل محدودا، فإصلاح القضاء لا يزال ورشا مفتوحا ينتظر الحسم فيه، والإصلاح الإداري ومحاربة الرشوة والامتيازات لدى رجال الدولة لم يتم فيه أي جديد، بل إن ما راج قبل أسابيع عن احتمال رفع رواتب البرلمانيين وما حدث لدى اقتناء الوزراء لسيارات فاخرة قد جعل الرأي العام يصاب بنوع من الاحباط، خصوصا وأن ذلك كله حدث بينما استمرت معاناة المعطلين تتصاعد دون أن تجد تسوية لها بعد أعوام من مواصلة الاعتصام والمطالبة بالتشغيل، وعلى صعيد أزمة السكن لا زال مشروع إقامة 100 ألف وحدة سكنية سنويا في أفق تحقيق طموح المليون سكن الاجتماعي يراوح مكانه بسبب تعدد المتدخلين، وكذا فيما يخص الإصلاح الإداري وتبسيط المساطر الإدارية للمواطنين. أما في الجانب الاقتصادي، فقد استقطب تعيين جطو القادم من مجال المال والأعمال تفاؤل الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، وبعد عام من عمر الحكومة لا زال التساؤل العريض حول المشاريع التي سطرتها الحكومة مطروحا، بينما لم تحقق الاستثمارات تقدما ملحوظا، أي أن مرحلة الخوصصة التي عملت الحكومات السابقة عليها لم تتحول إلى استثمار اقتصادي بإمكانه امتصاص الخصاص الاجتماعي الموجود. لقد كان عام 2003 عام الأوراش التي فتحت وأغلق بعضها، فيما لا يزال البعض الآخر ينتظر دوره، فهل يكون العام الجاري عام الحسم في ما تبقى من هذه الأوراش؟، سؤال نطرحه مع الكثير من الأمل وبعض الألم. إدريس الكنبوري