اتجهت الحرب العدوانية الصهيونية بقطاع غزة نحو مستويات غير مسبوقة، تذكر بمشروع الاجتياح الصهيوني لغزة الذي أجهض في ربيع 2002 بعد الاجتياح الذي تم لجنين ولعدد من مدن الضفة، ولئن كان الهدف المعلن للاجتياح الحالي هو تصفية إمكانات المقاومة وقدراتها العسكرية، إلا أن الواقع يكشف تحول هذه الحرب إلى عملية إبادة جماعية ممنهجة للشعب الفلسطيني بقطاع غزة، بعد أن فشلت عمليات الاغتيال والقصف بالصورايخ واستعمال الطائرات في القضاء على المقاومة المنبعثة من القطاع، كما يبرز حدة المأزق الصهيوني وتصاعد احتمالات حصول انسحاب مذل من القطاع، بعد أن كان يراهن شارون على انسحاب مشرف يطبق من خلاله خطته في فصل قطاع غزة، لكن بعد التصفية الشاملة لقدرات المقاومة بها، كل ذلك في وقت أخذت دول عربية تستأنف عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني، ووسط تخاذل للأنظمة العربية وقبول لما يجرى من جرائم إبادة جماعية بقطاع غزة، جعلت عدد الشهداء يناهز الثمانين في أقل من أسبوع من بدء الاجتياح، أما الخسائر المتعلقة بهدم المنازل وتدمير البنى التحتية بالقطاع فقد فاقت التقديرات حالة الحرب اليومية في نتائجها. طبيعة العملية الجارية لقد جاءت عملية الاجتياح مباشرة بعد الذكرى الرابعة لانطلاق الانتفاضة ودخولها العام الخامس، ورغم دموية هذا الاجتياح الأخير، فقد أبانت المقاومة عن قدرة مميزة على الرد وإدارة المعركة ميدانيا مع العدو الصهيوني، حيث استمرت عمليات إطلاق الصورايخ المستهدفة للمستوطنات المزروعة في قطاع غزة، وأكدت عملية الاجتياح فعالية انتقال المقاومة لاستعمال صورايخ مصنعة محليا، واستثمار ذلك في مواجهة الاجتياح الحالي، والذي سماه الكيان بأيام الندم، مما جعله يشبه من حيث رهاناته ما جرى قبيل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت ضغط صواريخ حزب الله المستهدف لمستوطنات شمال فلسطين، في ربيع ,2000 ورغم أن مشروع الانسحاب من الجنوب جاء بعد عمليات عسكرية صهيونية، إلا أن الانسحاب اكتسى صبغة الفرار والهرولة من الجنوب اللبناني، وكانت لذلك آثاره العميقة على الصهاينة، أما المقاومة اللبنانية فما زالت مستمرة، وهو السيناريو الذي أخذت إرهاصات تجدده تبرز بفعل حصيلة الاجتياح من الناحية العسكرية، بعد انتهاء أسبوع من بدء عملياته، ذلك أن الشروط الاستراتيجية المؤطرة له على المستوى الفلسطيني ترجح بشكل وازن لصالح المقاومة رغم أن الموقف الدولي والعربي والإسلامي لا يوفر عناصر إسناد حقيقية لها. والملاحظ أن الشروط الاستراتيجية للعملية العسكرية الصهيونية الجارية بالقطاع، موسومة بعدد من السمات التي تجعلها مختلفة عن سابقاتها من العمليات التي تؤشر لمرحلة انحسار في المشروع، أولى هذه السمات أن شارون انخرط في هذه العملية دون أن يضمن وحدة داخل الصف الصهيوني، والذي يزداد تفككا مع استمرار العملية وتحولها لخدمة عكس الأهداف التي انطلقت منها، مما جعله في وضعية دفاعية قاصرا حتى عن الرد على انتقادات شمعون بيريز، الداعية للتفاوض مع السلطة الفلسطينية من أجل تنفيذ خطة الانسحاب من غزة وتقصير المدة المبرمجة للانسحاب من سنة إلى بضعة أشهر، أما المقابل في هذه الصفقة فهو التوقف عن إطلاق صورايخ القسام، إن لم نقل أنه متفق معها. فعالية صواريخ القسام وبداية الانعطاف الاستراتيجي السمة الثانية تمثلت في كون هذه العمليات ووجهت بقوة ميدانية مضادة، أصبحت معها صورايخ القسام وبعدها الياسين عنصر تهديد استراتيجي للكيان الصهيوني، بعد أن تصاعدت موجات الهجرة الجماعية من مستوطنة أسديروت الصهيونية في النقب، جنوبفلسطينالمحتلة عام ,1948 إذ أفادت صحيفة معاريف العبرية أن المستوطنين بها يشعرون كأنهم رهائن في هذه الأيام، كما أن الوعد السابق بأن يكون القطاع مقبرة للغزاة في حال الاجتياح يجد طريقه للتحقيق، ونذكر بأن هذا الوعد أطلق مباشرة بعد إعلان شارون عزمه على مواصلة عملياته العسكرية بمدن الضفة والقطاع بعد مجزرة جنين، ولعل وقفة عند بلاغات كتائب عزالدين القسام حول الحصاد الجهادي في مواجهة الاجتياح، تكشف حصول عمليات اشتباك تستخدم فيها قذائف الهاون والياسين والعبوات الناسفة فضلا عن العمليات الاستشهادية، واستمرار عمليات إطلاق الصواريخ رغم عملية الاجتياح العسكري، مما يهدد ببقاء هذه العملية أسابيع إضافية حسب تصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشي يعالون. ويضاف إلى ما سبق أن صورايخ القسام أصبحت محور حملات إسرائيلية في العالم لحشد الدعم للكيان الصهيوني بما يوازي مفعول العمليات الاستشهادية في الحملات الصهيونية من أجل استجلاب الدعم للكيان، بعد أن كانت الحكومة الصهيوينة تلجأ إلى التهوين منها في السابق والاستهزاء بها، وهو ما برز في المحادثات التي أجراها وفد الاتحاد الأوروبي الذي زار الكيان الصهيوني هذا الأسبوع، وتزامن ذلك مع إعلان صحيفة يديعوت احرونوت العبرية أن مروحية وزير الدفاع الإسرائيليشاؤل موفاز، اضطرت أول أمس الإثنين، لتنفيذ هبوط اضطراري بسبب إطلاق صواريخ قسام، وذلك في الوقت الذي كان فيه متوجها إلى مدينة سديروت، وهذا التحول في الشروط الاستراتيجية جعل القادة السياسيين لحماس يطرحون التوقف عن إطلاق صواريخ القسام مقابل الجلاء التام عن قطاع غزة، كما أن الانتقادات التي كانت توجه من داخل الصف الفلسطيني لشرعية استعمال الصواريخ أخذت هي الأخرى تنحسر وتتوارى وتزايد الدعم لهذا الاستعمال، والذي يظهر أنه أصبح السلاح الأخير في المعركة الأخيرة لشارون بغزة. تواطؤ الموقف الدولي وتخاذل الموقف العربي الموقف الدولي والعربي يمثل هو الآخر شرطا استرتيجيا ثالثا، لكن بشكل غير مساعد لصمود المقاومة بقطاع غزة، ذلك أن المستوى الدولي مرتهن لاستحقاقات الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها يوم 2 نونبر المقبل، مما يعطي لشارون وعصابته الوقت الكافي من أجل مواصلة جرائم الإبادة بقطاع غزة، وهي وضعية مختلفة عما سبقها، وخصوصا بعد الحرب على العراق، والحماس الذي جرى لمصلحة خريطة الطريق، كما أن استقطاب كل من العراق وبعده أفغانستان للتركيز الأمريكي والدولي، فرض تراجعا في التعاطي مع القضية الفلسطينية، والاكتفاء بدعم خطة شارون في الانسحاب من غزة والنظر إلى ما يجرى على أنه ثمن لذلك، بما يؤكد وجود تواطؤ لتصفية القضية ضمن مجموع القضايا المطروحة في المنطقة، وليس غريبا أن تزامن ذلك مع تصاعد العمليات العسكرية الأمريكية المستهدفة لما يسمى بالمثلث السني بالعراق، وتشديد الضغط على سوريا في علاقتها مع لبنان، وصدور تقرير أممي سلبي حول الموضوع، فضلا عن المضي في مشروع تجزئة السودان من خلال قضية دارفور، ورفع حجم ومستوى التدخل الدولي فيها، أما في المنطقة المغاربية، فالظاهر ان هناك إرادة لتفجير استقرارها وتغذية التوتر بين كل من الجزائر والمغرب، وهي ليست سوى مؤشرات عن الاستهدافات المتعاظمة ضد المنطقة العربية. أما على المستوى العربي فرغم أن هذه العمليات تمثل أعنف وأضخم عمليات استهدفت القطاع منذ انطلاق انتفاضة الأقصى في شتنبر 2000 إلا أن التضامن العربي والإسلامي معها في أدنى مستوياته، مما جعل الكيان الصهيوني يمعن في ضرباته العسكرية داخل القطاع، واضعا في اعتباره أن الأمر لن يتجاوز حدود بيانات الإدانة والشجب، مثل بيان الجامعة العربية حول الاجتياح، خاصة وأن المؤشرات الأولى لإحياء ذكرى الانتفاضة أبانت عن انحسار الدعم الشعبي واختناق الدعم الرسمي، إن لم نقل تحوله إلى عنصر خذلان، وهو ما نشهده حاليا مع الإعلان بموازاة هذه العملية عن وصول فوج سياحي إسرائيلي من أصول يمنية وصل إلى صنعاء بداية هذا الأسبوع، وذلك بترتيب رسمي من السلطات اليمنية، حيث حصلوا على تأشيرات دخول يمنية في جوازاتهم الإسرائيلية من السفارة اليمنية في العاصمة الأردنية عمان، ويضاف إلى ذلك ما فضحته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية في عددها لأول أمس من حصول لقاء بين النائب الدرزي عن حزب الليكود في الكنيست الإسرائيلي مجلي وهبي مع نجل الرئيس الليبي سيف الإسلام القذافي، وذلك على هامش مؤتمر برلماني عقد في جنيف، وجرى ترتيب لقاء بين الوفدين الإسرائيلي والليبي في المؤتمر، والحاصل أن وقوع أحداث من هذا النوع وخصوصا في ظرفية الاجتياح الصهيوني، يقدم النموذج المصغر عن المستوى المتردي الذي بلغه الموقف العربي في المرحلة الراهنة، وهي وضعية تمثل النتيجة الطبيعية للحملات التي استهدفت المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر ثم حرب العراق، واتجهت تحت مسمى مكافحة الإرهاب على اجتثات ومحاربة هيئات نصرة القضية الفلسطينية ومحاصرة مبادرتها ودمج المنطقة في مشاريع وهمية للشراكة والإصلاح. خلاصة الواقع أن أقل شيء يمكن الدعوة إليه هو العمل على استعادة العمل العربي والإسلامي المشترك حول القضية الفلسطينية، والسعي لاستئناف حركة التضامن الفعلي مع المقاومة والشعب الفلسطيني، وإطلاق مبادرات واسعة النطاق من أجل ذلك وتحمل المسؤولية في هذا الظرف الحرج من تاريخ الأمة. مصطفى الخلفي