بين الفينة والأخرى أصبحنا نسمع عن قضية تسمم هنا وقضية غش هناك، مما أثار مخاوف عدد كبير من المواطنين، وبات يقلق راحتهم، فأصبحوا يطرحون السؤال تلو الآخر حول انعكاس ذلك على صحتهم، وزاد من شكوكهم ومخاوفهم اكتشاف شبكات لترويج لحوم أبقار غير صالحة للاستهلاك بمدينة مراكش، «التجديد» سألت عددا من المهتمين الذين طرحوا أكثر من علامة استفهام حول مدى فعالية أجهزة المراقبة حول سلامة الأغذية الموجهة للاستهلاك، وقالوا إن الأمر بات ملحا لتوحيد الجهود لمحاربة كل من سولت له نفسه الاغتناء على حساب صحة المواطنين. تسمم.. لم تكن تلك الطالبة تعرف أن صديقتها ستقضي ليلتها في مستشفى ابن زهر (المامونية) بمدينة مراكش، بعدما تعرضت هي وآخرين بداخلية المدرسة التطبيقية للمهندسين بمراكش لحالة تسمم، كان قلبها يخفق على غير العادة، واشمأزت نفسها من تلك الرائحة الغريبة التي كانت تنبعث من وجبة العشاء، لم تستطع الجلوس طويلا على المائدة ونهضت مسرعة تبحث عن لقمة تسد بها رمق الجوع، نبهت المسؤولين إلى تلك الرائحة، لكن أحدهم قال إنْ هي إلا رائحة الشمندر الذي تعلف منه الماشية. حالة التسمم هذه كشفت الظروف غير الملائمة التي يعيشها هؤلاء الطلبة، حيث قالت إحداهن أثناء زيارة لزميلاتها المصابات: «إن الظروف غير ملائمة تماما في داخلية المدرسة التطبيقية للمهندسين، ذلك أن القطط عادة ما تمر من فوق طاولات الأكل، كما أن شروط النظافة الأخرى غير متوفرة سواء في الأواني أو غيرها، وقد نبه بعض الطلبة المسؤولين عن هذه الوضعية، تضيف الطالبة نفسها، لكن الإدارة لا تكترث بذلك بدعوى عدم كفاية الميزانية». إنها صورة مصغرة لعدد من الداخليات التي تعيش على إيقاع شروط غير صحية ، وتذكرنا بتعرض تلاميذ لحالة تسمم مماثلة بمدينة الدارالبيضاء... حيث علق أحد المواطنين على ذلك بضرورة اتخاذ جميع التدابير اللازمة لتحسين ظروف الأكل في الداخليات، من أجل تفادي وقوع حالات أخرى قد تؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب. وأضاف آخر أن التسممات لم تعد مقتصرة على هذه الداخليات، فقد باتت المرافق السياحية والمنتديات العلمية والأسواق الشعبية معرضة لذلك أيضا، مما يحتم على المسؤولين معرفة أسباب الظاهرة وإيجاد حلول لها.. أبقار ميتة .. حالة أخرى تستهزئ بصحة المواطنين، ففي منتصف الشهر الماضي، وأثناء رحلة غير عادية من سيدي بنور إلى مدينة مراكش، تم توقيف شاحنة في الطريق ليكشف الستار عن إحدى الشبكات المتخصصة في ترويج لحوم أبقار غير صالحة للاستهلاك، شبكة تبدأ أول خيوطها من تجار يصطادون في الماء العكر ويقتنون أبقارا على وشك الموت، لتمر عبر مجموعة من الجزارين الذين يروجون للذبائح السرية، ثم عبر بائعي الأكلات الخفيفة في الأسواق الشعبية، لتنتهي في الأخير إلى بطن وأمعاء ذلك المستهلك المسكين الذي يؤدي من صحته ثمن غرور هؤلاء وانعدام ضميرهم. شك رجال الدرك في شاحنة خرجت لتوها من سوق الثلاثاء بسيدي بنور وعلى متنها مجموعة من الأبقار العجاف، وزاد من شكوكهم وجود بقرة مذبوحة أخليت من جميع أحشائها (قلب كبد...)، وقادهم التحقيق مع سائق الشاحنة إلى التعرف على المتهم الرئيس وهو جزار يسكن بمراكش، إذوجدوه يتوفر على إسطبل يحي عين إيطي يمارس فيه الذبيحة السرية، ويتاجر في اللحوم الحمراء منذ عدة سنوات مضت، يوزعها على بعض الجزارين وأصحاب بيع المأكولات الخفيفة. لم يتردد رجال الدرك في اعتقال كل من ذكروا أثناء التحقيق، ومنهم جزارون كبار لهم شعبيتهم في السوق، أخلي سبيلهم فيما بعد، فيما أحيل آخرون ثبث تورطهم في هذه القضية على الشرطة القضائية من أجل تعميق البحث، خاصة بعد ضبط آليات الذبح وبعض اللحوم المذبوحة مختومة بأختام مزورة، والتي أصبحت غير صالحة للاستهلاك، وهكذا قضت المحكمة بسيدي بنور على بعضهم بالسجن ودفع غرامات مالية وإتلاف المحجوز، ليقال إن الستار أسدل على حكاية من أغرب الحكايات في زمن ضاعت فيه القيم، ولم يزد هذا الأمر البعض إلا حيرة، ورجعت الذاكرة ببعضهم إلى حوادث مشابهة بيعت فيها لحوم حمير وبغال ... نقانق سرية راج خبر اعتقال بائع للنقانق في ساحة جامع الفنا في هذه القضية، والحكم عليه بالحبس سنة ونصف سنة وغرامة مالية، فيما حكم بالحبس سنة واحدة على كل واحد من خادميه، أحدهما أخوه الأصغر. حين زرنا الساحة العتيقة بدت لنا في حركة شبه عادية، ولم نجد بائع النقانق في مكانه، حيث علقت جلسته إلى إشعار آخر، وعلق أحد جيرانه على اعتقاله بشيء من السخرية «إنه ذهب إلى العمرة ليقضي بها عاما ونصف» ، فيما رفع آخر يديه إلى السماء طالبا من الله أن يفك أسره ويظهر الحقيقة. حين سألنا عددا من الزبناء الذين كانوا يأكلون وجبتهم المفضلة من النقانق بكل نهم وشهية مفتوحة، لم يكن أغلبهم على علم بهذه القضية، فيما وقف أحدهم بسرعة مستغربا أن يحدث ذلك في ساحة مشهورة معروفة عند الكبير والصغير في الداخل والخارج... أحد الباعة قال إن القضية باتت معزولة وإنها لن تؤثر على الساحة في أي شيء، أما مواطن آخر ففضل أن تشدد المراقبة على جميع المأكولات الخفيفة، خاصة في المناطق التي يقصدها عدد كبير من الزبناء، لأن ذلك من شأنه أن يحمي سمعة المدينة... تنافس المراقبين.. حملنا هاتين القضيتين إلى مهتمين بصحة المواطنين، ( ع.ك)، ناشط في جمعية لحماية المستهلك قال «إن الأمر لم يعد معزولا، فقد لاحظنا ارتفاعا على نحو مثير في الآونة الأخيرة في عدد التسممات الغذائية في جميع أوساط المجتمع». وتساءل (ع.ك) في معرض حديثه عن أسباب الظاهرة، هل هو غياب الحس الأخلاقي في المبادلات التجارية، والسعي نحو الربح السريع، أم عدم تطبيق القوانين، أم تواضع الوسائل البشرية والمادية لهيئات المراقبة وتشتتها بين أكثر من اثني عشر جهازا تحت وصاية ست وزارات تتنافس على الهيمنة على المراقبة، مما خلق نوعا من الفوضى والتداخل في الاختصاصات. ويضيف (ع.ك) : «من هنا تبرز أهمية سن قانون جديد على شكل مدونة الاستهلاك على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة، مع مراعاة الخصوصية الدينية والثقافية لبلادنا وتجميع عمل المراقبة في جهاز وحيد مستقل له صلاحيات واسعة وإمكانيات ملائمة تمكنه من التدخل السريع لضبط المخالفات من جهة، ومن جهة أخرى إعطاؤه دورا أساسيا في ما يخص المراقبة القبلية بجعله المسؤول الأول في البت في طلبات الرخص المتعلقة بالتصنيع والبيع والخدمات المرتبطة بالمواد الغذائية، وكذلك على الإشراف على إعداد المواصفات في هذا المجال». أما (ع.ز)، مهتم بقضايا الصحة، فقال : «إضافة لسن القوانين، يجب السعي من أجل رفع مستوى الوعي لدى المستهلك في ما يختص بصحة وسلامة المواد الغذائية، وإرشاده إلى سبل التأكد من سلامتها وصلاحيتها للاستهلاك، بالإضافة إلى توعيته إلى أساليب الغش والتحايل أينما أمكن ذلك، ويراعى في ذلك إتباع الطرق التي تتناسب مع مستوى الوعي لكل فئات وشرائح المجتمع».جهويات استطلاع: عبد الغني بلوط