في دورة تاريخية جديدة، تقف اللائيكية الغربية اليوم أمام الدين من جديد، لكنه ليس دين المسيحية والكنيسة، وليس كشكولا سياحيا من الديانات الجديدة المركبة من المشرق ومن المغرب، أو إنتاجا لصناع الطوائف والملل والنحل التي لا تعد ولا تحصى. ولم تتصرف العلمانيات الحداثية مع هذه البدع بمثل ما تصرفت به مع الدين الإسلامي. فقد أبصرت القوى المراقبة والمتربصة أن هذا الدين يتطاير إشعاعه ويتسارع انتشاره، وأنه يعيش دورة جديدة من دورات تجديده على رأس كل قرن. فكيف تنظر العلمانية إلى هذا الدين الفوار؟ وما ذا تريد منه حتى يحظى بالرضى والقبول والترحيب؟ وهل تقبل منه أن يصبح ذا جنسية أوروبية كما حدث لكل من المسيحية واليهودية وللبوذية ولطوائف دينية أخرى خرجت متكاثرة من رحم المسيحية واليهودية وخلطت وركبت وظهرت في شكل يغري ويستميل؟ أم لا تقبل به ولا ترحب به إلا وفق شروطها وعلى المقاس الذي تريد؟ أم تراها تريد لي ذراعه واستخدامه بعد ذلك في غزو ثقافي وسياسي لا نهاية له؟ أم تستغل صناعة الإرهاب المعولم لتصفية الحساب النهائي معه؟ ولأن العلمانية الفرنسية لادينية متعصبة فقد سعت إلى علمنة الإسلام، وصناعة إسلام فرنسي يشبه النموذج المسيحي الذي صنع من قبل. العلمنة الفرنسية للإسلام اتخذت مسارين اثنين: مسار قانوني وآخر ثقافي ديني. أما الأول فقد ارتكز فيه على قانون 1905 الذي ينظم تعامل الدولة مع الدين. وأما المسار الثاني فارتكز على النحت الأكاديمي والثقافي والحزبي وشارك فيه سياسيون ومسلمون لائيكيون. الأمثلة على علمنة الإسلام كثيرة جدا. لنأخذ على سبيل المثال مواقف وآراء وزير الداخلية الأسبق جان بيير شيفينمان. ففي فقرة بعنوان: الدخول بالإسلام في الجمهورية: العقبات للكاتب جيلبير غراننغيوم ضمن دراسة عن الإسلام الأوروبي أورد الرجل شهادات للوزير المذكور المعروف بتعلقه بالعلمانية في خطابه بستراسبورغ يوم 23 نونبر 1997 نشر في يومية لوموند يوم 25 نونبر .1997 هنالك صرح الوزير بأن الحرية والمسؤولية والمساواة كانت إبداعات مسيحية تعلمنت فيما بعد. وعلى الدرب نفسه سوف يسير المسلمون بشكل جماعي. وكما نشرت هذه القيم بشكل واسع في خمسينيات القرن العشرين من لدن القساوسة والرهبان والحركات المسيحية، لن يكون بالإمكان إشاعة هذه القيم إلا من لدن الذين يتحدثون باسم الإسلام. والمتحدثون باسم الإسلام مسلمون مختارون متطوعون للقيام بوظيفة محددة، ألا وهي تطويع الخطاب الإسلامي للعلمانية الفرنسية يعني علمنته بلسان ديني حتى تضمن عملية الإدماج. قال شيفينمان في هذا السياق: بالنسبة للمسلم من العوام الذي يتعامل بحذر مع الخطاب الرسمي الفرنسي، لن يتم نقل هذه لقيم التي تعبر أحيانا عن انفتاح الإسلام والانخراط في القيم الكونية إلا عن طريق ممثلي الإسلام (الأئمة والخطباء والمربون) الذين سوف يتبنونها. وخطابهم يندرج فعلا في إبداع هوية لائكية، وسوف يثق الناس فيهم لأنهم يتحدثون من داخل الجماعة المسلمة. إنهم سيكونون نماذج لأنهم مسلمون حقيقيون ولأنهم قاموا بخطوات ليصبحوا مكونا من الأمة الفرنسية دون أفكار مسبقة بقبول الحقوق والواجبات.. وبقبولهم لهذه القيم على أنها انفتاح وتطوير لثقافتهم الخاصة - كما جرى في الحالة المسيحية- سوف يتمكن المسلمون الفرنسيون من أن يحافظوا على أنفسهم ويندمجوا في الوقت نفسه. يتعلق الأمر هنا بصناعة إسلام فرنسي رسمي لا يشكل وجوده أدنى قلق. إسلام هادئ كما تنعته الصحافة الفرنسية. إسلام تحت قبضة التحكم. وهذه سياسة تشبه -على درجات- سياسات الدول الإسلامية نفسها التي تجتهد دائما في ضبط المجال الديني والتحكم فيه بالاحتواء والاحتكار أحيانا، وبالقمع والاحتقار أحيانا أخرى. ولا يمكن التحقق ممن أفتى بهذه السياسة للآخر: هل الحكومات الإسلامية والعربية المتوجسة من الصحوة الإسلامية هي صاحبة الفتوى، أم أن الحكومات الغربية هي صاحبة الرأي والنظر. المهم أن ابتكار جماعات الإسلام العلماني المكونة من أعضاء مسلمين ولا دينيين في الوقت نفسه مضت على قدم وساق في فرنسا، فأصبحنا نسمع بإسلام لا فرائض فيه ولا أركان ولا قيم ولا أخلاق. وأصبحنا نسمع آراءهم في المحافل والمناسبات ونرى صورهم في وسائل الإعلام الفرنسي والمواقع الإلكترونية. بل إن كثيرا منهم أعضاء في الأحزاب الفرنسية على اختلاف مشاربها من اليمين إلى اليسار مرورا بالجبهة الوطنية المتطرفة. حسن السرات