كان لافتا للنظر أن يقول الرئيس السابق للمؤتمر اليهودي الأميركي هنري سيجمان ما يحجم حتى الآن عن قوله "الشركاء" العرب في "عملية السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ففي مقال له نشرته النيويورك تايمز الثلاثاء الماضي لم يترك سيجمان مجالا للشك في ان الولاياتالمتحدة التي كانت حتى الآن تحتكر رعاية هذه العملية كانت وما زالت هي العقبة الرئاسية أمام نجاحها، وأنها تتحمل المسؤولية عن فشل المجتمع الدولي ممثلا في مجلس أمن الأممالمتحدة في إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين. فاستمرار "الالتزام الأميركي غير المشروط بأمن إسرائيل" مقرونا ب"استمرار إدارة (الرئيس باراك) أوباما في منع مجلس الأمن" الدولي من التوصل لاتفاق على حل الدولتين واستمرارها في الوقت ذاته في "تزويد إسرائيل بالمساعدات العسكرية التي تساعد في الإبقاء على احتلالها" هو وضع يجعل "اميركا تبدو في هذه الحالة كمن يتعاون مع حكومة (رئيس الوزراء بنيامين) نتنياهو في الاستمرار في إخضاع الفلسطينيين" كما كتب سيجمان الذي يرأس حاليا "مشروع الولاياتالمتحدة/ الشرق الأوسط". ولاحظ سيجمان أن الرئيس أوباما يعلم بان "حماس" دولة الاحتلال "لاستمرار محادثات السلام مع الفلسطينيين لم يخدم أي هدف غير توفير غطاء لاستمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات اليهودية واستباق ظهور أي شيئ يشبه دولة فلسطينية في الضفة الغربية"، قبل أن يدعو الولاياتالمتحدة إلى دعم قرار من مجلس الأمن الدولي "باستئناف محادثات السلام خلال إطار زمني محدد"، وفي حال رفضت دولة الاحتلال أو فلسطين ذلك فإنه يدعوها إلى الانضمام لدول أخرى في مطالبة المجلس بحل "قضايا الوضع النهائي العالقة" وإلى دفع المجلس للعمل من أجل وضع "نهاية للاحتلال وتمهيد الطريق لقيام دولة فلسطينية". ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة لم يبدر منها حتى الآن ما يثبت أنها تفكر حتى في إزالة العقبة الأميركية التي تحول دون مجلس الأمن والقيام بدوره في ايجاد حل سلمي عادل للصراع في فلسطين وعليها، وبالرغم من وفرة التقارير الإعلامية التي تتحدث عن احتمال عدم معارضتها لمشاريع قرارات عربية وأوروبية مرتقبة في مجلس الأمن، فإن الإدارة الأميركية التي عارضت في السابق مثل هذه القرارات في المجلس وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يصدر عنها حتى الآن ما يؤكد هذا الاحتمال، لا بل إن واشنطن قد طلبت تأجيل مشروع قرار مماثل فرنسي – نيوزيلاندي إلى ما بعد انقضاء الموعد النهائي لإبرام اتفاق دولي على البرنامج النووي الإيراني في الثلاثين من حزيران/ يونيو المقبل. غير أن كل الدلائل تشير إلى أن الولاياتالمتحدة ليست هي وحدها العقبة، ف"المجتمع الدولي" ما زال حتى الآن قاصرا في رؤيته لحل عادل للقضية الفلسطينية أو عاجزا كجامعة الدول العربية عن وضع رؤيته موضع التنفيذ أو لا يجد مقاومة فلسطينية جادة تضع الجامعة والمجتمع الدولي معا أمام مسؤولياتهم. أثناء اجتماعه مع نتنياهو الأربعاء الماضي حذر بورج بريندى وزير خارجة النرويج، راعية "اتفاق اوسلو" سيئ الصيت، مضيفه من أن "الضغط الدولي" على دولة الاحتلال سوف يزداد بعد الثلاثين من الشهر المقبل، وحثه على تقديم مبادرة لاستئناف المحادثات قبل ذلك التاريخ. وفي العشرين من هذا الشهر سارع نتنياهو الذي يرأس للمرة الرابعة حكومة حرب واستيطان وتوسع وتهويد الى التقاط دعوة بريندى ليجدد التزامه اللفظي ب"حل الدولتين" ليقول: "موقفي لم يتغير. أنا لا أؤيد حل الدولة الواحدة. إنني أؤيد رؤية دولتين لشعبين – دولة فلسطينية مجردة من السلاح تعترف بالدولة اليهودية" كما نقلت عنه "هآرتس"، ليعين نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية سيلفان شالوم المعروف بمعارضته القوية لإقامة أي دولة فلسطينية كبيرا للمفاوضين على مفاوضات لا وجود لها وإن استؤنفت فإنها مطلوبة لذاتها إسرائيليا ك"غطاء لاستمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات اليهودية واستباق ظهور أي شيئ يشبه دولة فلسطينية في الضفة الغربية" كما كتب سيجمان. وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد اشترط تجميد الاستيطان، والدفاع عن دفعة جديدة من أسرى ما قبل اتفاق أوسلو، وبدء مفاوضات متواصلة لمدة عام تنتهي بجدول زمني لانسحاب قوات احتلال عام 1967 قبل نهاية عام 2017، وهذه شروط وصفها المحلل السياسي الفلسطيني هاني المصري بأنها "ليّنة حتى لواحد مثل نتنياهو"، قبل أن يستنتج بأن الأخير يمكن أن يعتبرها "طوق نجاة له … من شانه وقف سياسة التدويل" التي لجأ اليها عباس، "وقطع الطريق على العزلة الدولية والعقوبات المحتملة" على دولة الاحتلال، و"إضعاف الدور المأمول لمحكمة الجنيات الدولية" بعد انضمام فلسطين إليها. وتحذير بريندى هذا، ومشروع القرار الأممي الفرنسي – النيوزيلاندي، وزيارة مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فديريكا موغريني لفلسطينالمحتلة الأربعاء والخميس الماضيين هي ثلاث مؤشرات حديثة لما وصفه بريندى ب"الضغط الدولي" على دولة الاحتلال لاستئناف المفاوضات، ف"المجتمع الدولي" الذي تراهن عليه رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية بديلا لمقاومة الاحتلال يتحرك كما يبدو في الظاهر، لكن التدقيق في تفاصيل هذا التحرك يؤكد أنها حركة لا بركة فيها. لكن رئاسة المنظمة منذ يئست من الرعاية الأميركية لاستراتيجية المفاوضات التي تنتهجها فتوجهت قبل ثلاث سنوات إلى الأممالمتحدة بديلا لها تدرك أكثر من غيرها أن هذا "المجتمع الدولي" إنما يسعى للضغط على دولة الاحتلال من أجل استئناف المفاوضات ليس من أجل إنهاء احتلال عام 1967 بل من أجل ضمان أمن دولة الاحتلال، وهي تدرك كذلك أن لا تغيير جوهريا حتى الآن في الموقف الأميركي. فعلى سبيل المثال، ما الذي يمنع النرويج من الاعتراف بدولة فلسطين كالسويد بعد أكثر من عشرين سنة من اختبارها لصدقية منظمة التحرير في السعي من أجل "السلام" استجابة لاتفاق "أوسلو" الذي رعته! وتقول فديريكا موغريني، كمثال آخر، إن الاتحاد الأوروبي "جاهز ومستعد للعب دور رئيسي في إعادة إطلاق" المفاوضات، ولهذا الغرض أعلنت مؤخرا تعيين الايطالي فرناندو جنتيليني ممثلا خاصا للاتحاد في المنطقة وتعيين موفد دائم للاتحاد في القدس، وإن الاتحاد يسعى إلى إحياء دور (اللجنة) الرباعية" الدولية (الولاياتوالأممالمتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي). لكنها لا تريد تغيير ممثل الرباعية في المنطقة توني بلير لأن "مسؤوليته تركزت على دعم التنمية الاقتصادية للفلسطينيين"، بالرغم من فشله الذريع بعد ثماني سنوات من توليه مهام منصبه سياسيا واقتصاديا على حد سواء، ليتساءل المراقب لماذا لا تسعى موغريني جادة إلى التنسيق مع روسياوالأممالمتحدة في تبني مبادرة مشتركة في الأممالمتحدة لإنهاء احتلال عام 1967 والاعتراف بدولة فلسطين على اساس "حل الدولتين" الذي تكرر التزامها به كوسيلة لعزل المعارضة الأميركية لدور "المجتمع الدولي" في ايجاد حل عادل للصراع عبر المنظمة الأممية! أما مشروع القرار الأممي الفرنسي – النيوزيلاندي، كمثال ثالث، فإنه خير دليل على أن رهان رئاسة المنظمة على "المجتمع الدولي" بديلا للمقاومة الوطنية للاحتلال هو رهان خاسر من دون أن تردفه مقاومة شاملة بكل الأشكال للاحتلال على الأرض. لقد ذكرت "هآرتس" العبرية الأربعاء الماضي أن فرنسا قد استجابت للطلب الأميركي بتأجيل عرض مشروع قرارها على التصويت في مجلس الأمن الدولي إلى ما بعد الثلاثين من الشهر المقبل، لكن وزارة خارجيتها وزعت مسودته على دول الجامعة العربية واعضاء مجلس الأمن، وقد حصلت "لوفيغارو" الفرنسية على نص مشروع القرار فنشرته نهاية الأسبوع الماضي، وهذا النص يمثل فضيحة فلسطينية لاستمرار الرهان على هكذا مجتمع دولي. لقد رشت فرنسا منظمة التحرير بوعد منها للاعتراف بدولة فلسطين من جانب واحد في حال لم يتوصل مفاوضو المنظمة مع دولة الاحتلال بعد ثمانية عشر شهرا إلى اتفاق على "سلام عادل ودائم وشامل"، لكن هذا الوعد بالكاد يغطي على التنازلات الفلسطينية التي ينص مشروع القرار الفرنسي عليها. فتبني مشروع القرار لصيغة "دولتين لشعبين" هو دعوة لإلزام منظمة التحرير بالاعتراف ب"يهودية" دولة الاحتلال بصيغة غير مباشرة، وهو ما تكرر رئاسة المنظمة رفضها له، ليتحول بذلك المشروع الفرنسي عمليا إلى وسيلة ضغط على المفاوض الفلسطيني لا على دولة الاحتلال. وينص مشروع القرار على "تبادل الأراضي" كمدخل لانتزاع موافقة المنظمة على الاستجابة ل"الاهتمامات الأمنية" لدولة الاحتلال التي تسعى إلى تقاسم الضفة الغربية بينها وبين المنظمة بضم المستعمرات الاستيطانية الكبرى ووادي الأردن إلى دولة الاحتلال، وكون معظم هذه المستعمرات يقع في شرقي القدس أو في محيطها المباشر يفسر الصيغة الغامضة في نص المشروع على أن تكون القدس هي "العاصمة لدولتين في المستقبل". ويدعو المشروع الى احترام "سيادة الدولة الفلسطينية المجردة من السلاح"، ويدعو كذلك إلى "انسحاب على مراحل" لقوات الاحتلال "خلال مرحلة انتقالية يتفق الطرفان على طولها". كما يدعو النص الفرنسي إلى "حل عادل ومتوازن وواقعي لمشكلة اللاجئين" الفلسطينيين على أساس "آلية التعويض". ونص مشروع القرار الفرنسي ربما يفسر التقارير الإعلامية التي تتحدث احتمال عدم استخدام الولاياتالمتحدة لحقها في النقض "الفيتو" ضده في مجلس الأمن الدولي. وسواء نقضت الولاياتالمتحدة مشروع القرار الفرنسي أم لم تنقضه، فإنه إصداره لن يحدث أي فارق على الأرض الفلسطينيةالمحتلة، فعشرات القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان وغيره من المنظمات الأممية التابعة لها كانت وما زالت مجرد حبر على ورق بانتظار "مجتمع دولي" ينفذها على الأرض، ووجود مثل هذا المجتمع ليس متوقعا في أي مستقبل منظور، أو بانتظار مقاومة فلسطينية وعربية وإسلامية تترجم إرادة المجتمع الدولي الذي أصدر تلك القرارات فعلا ملموسا على الأرض المحتلة. لكن صمت منظمة التحرير عن التعليق سلبا أو ايجابا على نص مشروع القرار الفرنسي هو صمت مريب، ولا يسوغه ترحيل المنظمة لمسؤوليتها عن قبول مثل هذا المشروع إلى لجنة المتابعة في الجامعة العربية للتداول بشأنه كما أعلن كبير مفاوضيها صائب عريقات يوم الثلاثاء الماضي، فموافقة الجامعة العربية في وضعها البائس الراهن على المشروع أمر مفروغ منه، ما يدفع المراقب إلى التساؤل عما كان يعنيه الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة بقوله في الثامن عشر من هذا الشهر إن "المرحلة القادمة هي مرحلة مواجهة سياسية كبرى"!