إن الحملة الفرنسية وما سوف ينجر عنها من قوانين وأحوال تؤكد على ثلاث استنتاجات هامة ومصيرية وفريدة تتجاوز الواقع الفرنسي، لتلمس حالة الأقليات المسلمة في الغرب فقها وممارسة، و دور المرأة كإنسان وكمسلمة، والعلمانية كإطار مستقبلي مهتز كان ينشد حلولا لأطر متخلفة : - يحمل المظهر الإسلامي خاصية ذات بعدين، وظيفي ورمزي. وهي حالة يلتقي فيها مع بعض الأديان ولكن يفوقها حجما ودلالة، وهي توحي بفرادته وتجعله يعبر عن ثقافة وعقلية ومنهج حياة يتجاوز الحدود والثقافات.فهل تسبق قوانين الإطار الذي يتنزل فيه تصوراته أم يعلو عليها وينبذها؟ هل يعلو الحجاب على الجمهورية أم يتأقلم مع المعطيات الجديدة ويحترم قانون الأغلبية على مرارته؟ هذه اللحظة التي تعيشها الأقلية المسلمة في فرنسا خاصة وفي بلاد الغرب عامة، تظهر مدي ما يحمله هذا الواقع الجديد من خاصيات ومميزات تدفع إلى الإسراع بإنشاء فقه للأقليات لا يكتفي بدور النصيحة والإفتاء ودعها حتى تقع، ولكن يفرض الجرأة على خوض هذه التجربة المصيرية والهامة في مستوي الفروع، فإذا كان هذا الفقه جزء من الفقه العام، فإنه يجب أن يتميز عليه بواقعه الذي يتنزل فيه وبخصوصية أوضاع طالبيه. إن بروز فقه جديد بقواعد جديدة يعبر عن حالة جديدة لم يعرفها الإسلام سابقا، حيث أصبح قلة في كثير، يعتبر أمرا ضروريا وحاسما لاندماج هذه الأقليات في أوطانها الجديدة مع احترام قوانين بلدانها دون تفسخ أو اندثار أو انعزال. - أصبحت المرأة رمزا للإسلام وهي حقيقة جديدة ومكسب لم يكن يحلم به أصحاب المشروع نفسه، فحقوق المرأة ودورها الاجتماعي كان الثلمة التي يجب رتقها، وحلقة الضعف الرئيسية في الخطاب الإسلامي وممارساته. كانت دونية المرأة وحقوقها المهضومة عنوانا سلبيا للإسلام عند الضفة الأخرى، وببروز الحجاب ودخوله معترك المطالب النسوية والحقوق الشخصية، وتبنيه كوسيلة تحرير للمرأة من تقاليد العزلة والانسحاب، و من خطاب الإبعاد والإقصاء، وممارسات الدونية والاستخفاف، وتأويلات قرون الانحطاط والسقوط، لتصبح المرأة المتحجبة صورة حية للمرأة الحرة التي لها رأيها في الشأن الخاص والعام. وتصبح المرأة عنوانا إيجابيا للإسلام إذا روعيت القراءة الواعية والمتحضرة والسليمة للأقوال والأفعال. هذه الحالة الجديدة للمرأة لا تعتبر إفرازا فريدا وحالة لم يشهدها التاريخ الإسلامي، ولكن عودة على بدء وارتباط طبيعي بعد قوسين من ضلال التقاليد والجور الفقهي، بالروح التحريرية التي حملها النص الإسلامي وتجربته التاريخية أيام مجده الحضاري. ألم تُعرّف النساء المتحجبات بالحرائر وغيرهن من الإماء والعبيد اللاتي ليس لهن أدنى دور في الحياة العامة! - انهيار العلمانية في مفهومها العام كراعية للحريات ومدافعة عن حقوق الإنسان، وتلوثها بلغة المصالح الإثنية والقومية وبالمكاسب الانتخابية على حساب المبدأ والنموذج. هذه الرجات المتوالية التي ما فتئت تهز ديار العلمانية حينا واللبرالية حينا آخر، من مثل قوانين الهجرة في أميركا وانتهاكها لأبسط الحقوق والحريات العامة، إلى مسجونين بدون حساب ولا عقاب ولا يحملون أي صفة قانونية، ومن مثل ما يقع من مضايقات وتهديدات لوسائل إعلامية لا تمشي وراء الركب وفضلت التغريد خارج السرب. كل هذه النقاط السوداء التي بدأت تنهمر ويكثر وقعها على أرض متعطشة لزرع آخر وزارع جديد، جعلت من العلمانية والليبرالية قصور رمل واهية لأي موجة قادمة مهما ضعف زبدها. ولهذه الترهلات وقع شديد في البلدان العربية والإسلامية التي شهدت وما زالت تشهد تعاظم العودة للإسلام الفطري، وانهيار المقولات والشعارات العلمانية والليبرالية التي ساهم آباؤها في الضفة الأخرى في اهتزاز صورتها، مما جعلتها تفقد مصداقيتها وتستعد لمغادرة المشهد السياسي والاجتماعي وهي في حيرة من أمرها. بتصرف د. خالد الطراولي مدير تحرير مجلة مرايا باريس