تظل قضية الاسرى السياسيين عموما وقضية اسرى الداخل خصوصا القدامى منهم ( ما قبل أوسلو ) ، واحدة من القضايا الساخنة التي لن تبرد ابدا الا بالإفراج التام عنهم بعد ان قضوا أكثر من ثلاثة عقود في السجون الاسرائيلية دون مبرر ، وبشكل يجسد أكبر عملية ظلم تاريخي ممزوج بعنصرية سادية ليس لها مثيل في التاريخ . من المعروف أن مناورات إسرائيل أفشلت عملية الإفراج عن أسرى الداخل في إطار الدفعة الرابعة والأخيرة التي اتفق عليها في اطار آخر جولة مفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية العام الماضي ، والذي جاء وقعه موقع حُكْمٍ بالإعدام على هؤلاء الأسرى الذين قفزت عنهم كثير من الإفراجات سواء كانت سياسية ، أو في إطار تبادل الأسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية والعربية . ان التصريحات التي صدرت مؤخرا من مصادر إسرائيلية وعلى رأسها تصريحات منسوبة إلى نتنياهو وحلفائه اليمينيين ، رفضهم الإفراج عن الأسرى السياسيين خصوصا من عرب الداخل ، أضافة الى مجموعة التشريعات التي صادقت عليها الكنيست في هذا الشأن في السنة الأخيرة ، بقدر ما تعكس العقلية العنصرية الإسرائيلية التي تميز بشكل صارخ بين أسرى يهود وفلسطينيين متهمين بنفس التهم ومحكوم عليهم بنفس الاحكام ، حيث يتمتع الاسرى اليهود بامتيازات بلا حدود داخل السجون تنتهي بالإفراج المبكر عنهم ، بينما يُحرم الاسرى الفلسطينيون من الحقوق الأساسية المنصوص عليها في القانون ، وتُغلق في وجوههم بصورة كاملة فرص الافراج الا بطريق تبادل الاسرى ، فوق ذلك فإن السياسة الإسرائيلية الجديدة تجعل من عملية الافراج عن الاسرى عملية شبة مستحيلة ، ولا تترك مخرجا لتحقيق هذه الغاية الا عبر عمليات تبادل جنود ومدنيين إسرائيليين اسرى ، وهو الامر الذي سيزيد من حالة الاحتقان واشتعال الجبهات بصورة دائمة . مثل ذلك يمكن ان يُقال في قضية الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني - العربي ، حيث ترفض حكومات إسرائيل المتعاقبة وبشكل اكثر صراحة الحكومات اليمينية كحكومة نتنياهو الحالية ، أي حل سملي عبر المفاوضات يؤدي بوضوح الى قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف ، وعودة اللاجئين ، وتحقيق كامل الاماني الوطنية الفلسطينية من جهة ، وفرض سياسة الامر الواقع على الأرض الفلسطينية توسيعا للاستيطان وابتلاعا للأرض وتهويدا للقدس وقتلا للحلم الفلسطيني بالاستقلال وكنس الاحتلال من جهة أخرى ، فأن إسرائيل بذلك لا تدع فرصة للحل سوى الحرب ، الامر الذي يعرف العالم انه سيكون مهددا كارثيا للأمن والاستقرار الدوليين ، فوق ما يشكله من تهديد لمجموعة القيم التي يؤمن بها (العالم الحر!!! ) والتي في صلبها حق الشعوب في تقرير المصير وانهاء حالات الاحتلال الأخيرة في العالم والتي يكاد الاحتلال الإسرائيلي يكون الوحيد في هذه المرحلة بشكله متكامل الاركان . تصريحات القيادة الإسرائيلية وعلى راسها نتنياهو في المسألتين السياسية والأسرى ، تثبتان بما لا يدع مجالا للشك للمرة الألف عدم وفاء إسرائيل بأية اتفاقيات مبرمة ، واحتفاظها دائما بالقدرة على نسف كل الاتفاقيات والتفاهمات خدمة لمصالحها وأهدافها ، مما يستدعي موقفا عربيا – دوليا اكثر قوة تجاه إسرائيل يضع حدا لتمردها على قرارات الشرعية الدولية ، وتهديدها الدائم للاستقرار والأمن في العالم. لقد صفعت إجراءات إسرائيل باعتقال الأغلبية الساحقة من الاسرى الفلسطينيين الذين تم الافراج عنهم في اطار صفقة ( وفاء الاحرار / شاليط ) ، وإعادة تفعيل الاحكام التي صدرت ضدهم واغلبها احكام مؤبدة ، بدعاوى متهافتة لا تعدو ان تكون سياسة انتقامية في الدرجة الأولى ، صفعت هذه الإجراءات وجه المجتمع الدولي عموما والوسيط الألماني وغيره خصوصا ، وأثبتت هي أيضا الا عهد لإسرائيل ، ولا بد من البحث عن وسائل أخرى تلزم هذه الدولة المارقة بتنفيذ الاتفاقات الدولية ذات العلاقة بالأسرى و الحقوق الفلسطينية دون محاباة قبل أن يأتي الطوفان . لقد شَكَّلَتْ التصريحات الصادرة عن مكتب نتنياهو في الأيام الأخيرة حول مصير الاسرى الفلسطينيين ، مصدرَ قلقٍ للمجتمع العربي عموما والأسرى المعنيين وأهاليهم خصوصا ، وأعاد الجميع إلى المربع الأول الذي حذرنا منه منذ بداية المفاوضات الأخيرة والتي أتمنى الا تقع فيها السلطة الفلسطينية مستقبلا ، من أن تحول حكومة إسرائيل موضوع أسرى الداخل إلى أداة ابتزاز للطرف الفلسطيني ، بدل أن يكون ورقة ضغط في يد المفاوض الفلسطيني الذي لُدِغَ من الجحر الإسرائيلي عشرات المرات ، كما لُدِغَ النظام العربي الرسمي قديما وحديثا عشرات المرات هو أيضا من جحر دول الاستكبار العالمي بريطانيا وفرنسا وامريكا ، فقدنا بسبب ذلك الأوطان والمقدسات وهلك الحرث والنسل ، وما نراه اليوم من انهارالدم التي تسيل في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها ، بيد الأعداء وبيد بني جلدتنا ، الا ثمرة من ثمرات تلك المؤامرات التي ما زالت تُؤتي أكلها بإذن المتآمرين على مصالح الامة من الداخل والخارج . إن حديث الرئيس الفلسطيني ( أبو مازن ) حول فرص استئناف المفاوضات مع حكومة نتنياهو الحالية التي توصف بانها الأكثر تطرفا على الاطلاق ، دون التطرق الى شروط فلسطينية واضحة حول الاسرى المعادين الى الاعتقال او الذين لم تُطْلِق إسرائيل سراحهم في اطار الدفعة الرابعة والأخيرة المتفق عليها في جولة المفاوضات الأخيرة العام الماضي والتي افشلتها إسرائيل ، لا يبشر بخير ولا يشير بحال من الأحوال الى ان القيادة الفلسطينية مستعدة لاستخلاص العبر من دروس الماضي المؤلمة .. ان تفريط القيادة الفلسطينية بالأسرى عمليا من خلال إمكانية قبولها استئناف المفاوضات دون ان يكون الافراج عنهم شرطا من شروط بدايتها وليس نتيجة من نتائجها ، وان ادعت دعم القضية قولا ، سيضع القيادة في خانة المفرطين ان لم يكن اكثر من ذلك ، الامر الذي أتمنى الا تقع فيه القيادة ابدا .. أذكر هنا أنه قد ثار جدل مماثل سبق الافراج عن الدفعة الثالثة ، إلا أن تدخل وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري) قبل مغادرته المنطقة بعد جولته المكوكية (العاصفة !!) حينها ، حسمَ المسألة وضمن الإفراج عن الأسرى في الدفعة الثالثة ، وبذلك هَدَّأ من عاصفة القلق التي اجتاحت أهالي الأسرى القدامى (قبل أوسلو) المتفق على الإفراج عنهم بموازاة عملية المفاوضات التي كانت الجارية في ذلك الوقت ، وخصوصا أهالي أسرى الداخل .. ما زال القلق المتوحش الذي يأكل اكباد أهالي اسرانا سيد الموقف ، خصوصا وان السلطة الفلسطينية لم تبد اهتماما نوعيا بهذه القضية لا في الماضي ولا في الحاضر ، وان آخر ما يفكر فيه النظام العربي الرسمي ان يتبنى ملف الاسرى الفلسطينيين وفيهم رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني دكتور عزيز دويك ونحو عشرين من أعضاء المجلس اغلبهم من نواب كتلة الإصلاح والتغيير الإسلامية ، إضافة الى اعلان الرئيس الأمريكي استسلامه الكامل امام صلف نتنياهو وعنجهيته ، وانسحابه المهين من فرض ارادته عليه ، واستبعاده التوصل لحلٍّ لقضية فلسطين خلال ما تبقى له من فترة رئاسية في البيت الأبيض . سياسا ، فان دور السلطة الفلسطينية ورئيسها في هذه المرحلة حاسمٌ في الدفع في اتجاه الافراج عن كل اسرانا القدامى ، وفي القلب منهم أسرانا من الداخل الفلسطيني 1948 ، وعليه نتوقع منها أن تكون على مستوى المسؤولية ، وأن تبقى يقظة ومتنبهة إلى كل مراوغات إسرائيل وحكومتها .. إصرارُ الجانب الفلسطيني على رفض أيةَ محاولةٍ للالتفاف على مسألة الإفراج عن الأسرى القدامى الامر الذي يمكن ان يضمن لأسرانا من الداخل فرصة الحرية بعد انتظار عقود طويلة ، وتقديم ملفهم للجنايات الدولية كجزء من ملفات الاتهام لإسرائيل بارتكابها جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني ، موقف صحيح وسيستحق منا التقدير، وندعو المفاوض الفلسطيني إلى التمسك به مهما كانت النتائج ، لأن في التمسك به خلاصا من كل مراوغات إسرائيل ، ونقلا للكرة إلى الملعب الأمريكو – إسرائيلي ، وهذا هو المطلوب . ميدانيا ، فإن احتفاظ المقاومة الفلسطينية في غزة بأسرى إسرائيليين وقعوا في أسرها خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة على غزة ، يشكل بلا ادنى شك الرد الحاسم والقاسم على رفض القيادة الإسرائيلية التعامل مع الملف سياسيا ، كما ويمثل املا للأسرى خصوصا الأسرى الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية بالإفراج في اطار صفقة جديدة لتبادل الاسرى بين إسرائيل وحماس .. نحن على ثقة بان حماس قد استخلصت العبر من صفقة ( وفاء الاحرار ) ، خصوصا فيما يتعلق بأسرى الداخل الفلسطيني ، وستحقق بشأنهم ما لم يتحقق منذ ثلاثة عقود من المعاناة ، وستضع حدا لأحزان الأمهات والزوجات التي طالت حتى انهدت تحت وطأتها أجساد شاخت وأرواح شردت وآمال فُقدت الا من الله سبحانه ، واوجاع صامته ملات القلوب والصدور عَبَّرَتْ عنها أم الأسير ( رشدي أبو مخ ) من مدينة باقة الغربية ، من خلال ابيات زجلية أنشدتنا إياها عند زيارتنا التضامنية الى بيتها مؤخرا : هذي المساجين يا حسرتي عليهم يا سبع أبواب ومقفل عليهم لو اني حية اسعى اليهم لو اني طير وارفرف على الأبواب في هذه الاثناء ، تستمر إسرائيل ومصلحة السجون في عقاب الأسرى وتنتهك كل المعايير الدولية والإنسانية ذات العلاقة بقصيتهم ، حيث يصل عدد الأسرى الإداريين اليوم في سجون إسرائيل الى 480 معتقل/ة، من مجمل ما يقارب 6000 أسير/ة، بينهم 205 طفلا معتقلا دون الثامنة عشرة. كما تستمر معاناة الأسرى جراء سياسات التضييق في كافة المجال وخاصة العقاب الصحي . حيث استشهد مؤخرا الأسير المحرر جعفر عوض (22 عاما من بلدة بيت امر في الخليل) والذي تعرض للمرض وتفاقمت حالته داخل السجن جراء سياسة الإهمال الطبي . ووفق بيانات هيئة شؤون الأسرى والمحريين وصل عدد الأسرى المرضى الى 1500 أسير يعانون أمراض مختلفة ، منهم حوالي 80 أسير في حالة صعبة خطرة . هنالك حاجة ملحة في هذه المرحلة اكثر من أي مرحلة سابقة لرصد مسلسل الانتهاكات الإسرائيلية الخطيرة ضد الحركة الاسيرة ، والنهوض بمشروع تنخرط في اطاره كل مؤسساتنا الرسمية والشعبية في الداخل والخارج ، غايته تحريك الهيئات الدولية الحقوقية في اتجاه حصار إسرائيل في هذا الشأن ، والضغط عليها في سبيل التسريع في تحسين أوضاع الاسرى داخل الاسر تمهيدا للإفراج عنهم سياسيا أو في اطار صفقة تبادل . ننتظر على أحر من الجمر إطلاق من تبقى من أسرى ما قبل أوسلو ، الذين ظلوا في سجون إسرائيل بعد الافراج عن أسرى الدفعة الثالثة العام الماضي ، والذين ينطبق عليهم المعيار الذي حَكَمَ الاتفاق بشان الأسرى القدامى ، تمهيدا لإطلاق المعتقلين إداريا والنساء والمرضى في المرحلة القادمة ، ومن ثم كل أسرى الحرية. إنهم يستحقون وبامتياز أن يعانقوا الحرية لأنهم أصحاب قضية عادلة ، لن تتم الفرحة إلا بالإفراج عنهم …