نظمت مؤخرا إحدى الجمعيات النشيطة في العمل الطفولي بمدينة الرباط، صبحية تربوية وترفيهية لفائدة الأطفال، تميزت بمواد متنوعة من إنشاد ومسرح وألعاب ترفيهية وتنشيطات قدمها مؤطرون تربويون. وقد كان لي شرف تسيير هاته الصبحية، مما جعلني أحتك عن قرب بمجموعة من الأطفال المشاركين، وفي البداية قدمت للحاضرين الطفل جعفر الذي افتتح الحفل بآيات بينات من الذكر الحكيم، والتي تلاها بصوت متميز وبإتقان جيد لقواعد التجويد خشع له الحاضرون من أطفال وآباء. وفي نهاية التلاوة القرآنية اهتزت القاعة بتكبير نابع من أفواه صغيرة، لكن بقلوب وعقول كبيرة وصافية لازالت على الفطرة التي فطرها الله عليها. سألت الطفل جعفر أمام الحاضرين، عن سر تعلمه للقرآن وإتقانه لقواعد التجويد، فأخبرني بأنه يتعلمه على يد معلم للقرآن في البيت، وحينما سألته عن عدد الأحزاب التي يحفظها، أجابني بخجل النصف، فعقبت عليه: كم بالضبط؟ فأجابني: أربع وثلاثون حزبا حينها دعوت له بالتوفيق والسداد، وطلبت من الأطفال الحاضرين وكذلك الآباء الاقتداء بهذا الطفل المتميز. يتميز جعفر بإتقانه الجيد للغة العربية الفصحى، كيف لا، وهو حافظ لأكثر من نصف كتاب الله، مما يجعل لغته سليمة وسلسة وغنية، وهذا ما ظهر جليا أثناء المسرحية التي عرضت خلال هذه الصبحية، والتي تألق فيها صحبة مجموعة من الأطفال المتميزين، حيث نالت هاته المسرحية إعجاب الحضور لما طبعها من جودة في الأداء وفي المضمون. أثناء المسرحية، وقعت لي حادثة مع الطفل جعفر، فقبل أن يأتي دوره، كان يختلس النظر من الكواليس لكي يطمئن على السير العام للمسرحية. حينها نبهته على أن الجمهور يمكن أن يراه وهو ينظر من وراء الستار، فاعتذر لي وقال: ما شاء الله فعل وماشاء الله قدر. بعد هاته الواقعة تأكدت بأن هذا الطفل الذي لم يكمل بعد عقده الأول قد أثر فيه القرآن، حيث أصبح ملازما له في كلامه ودراسته وحتى في موهبته المسرحية التي يحبها. وإذا كان أهل الغرب يحبون مقولة: وراء كل رجل عظيم امرأة فإني أفضل عليها مقولة أكثر حكمة وأكثر عقلانية وهي: وراء كل عظيم آباء ومربون، فالأطفال يولدون على الفطرة، والآباء والمربون هم الذين باستطاعتهم توجيه هاته الفطرة الربانية، وتنقيتها وإبعادها عن الشوائب والموبقات المحيطة ببيئتنا. نموذج آخر أسوقه للقارئ الكريم، لكنه مغاير تماما لقصة صديقنا جعفر، هذا النموذج هو لأحد الآباء الذي التقيت به منذ مدة في أحد الملتقيات، وقد دار بيننا حوار حول التعليم ومناهجه، وطرق التلقين، ومما أثار استغرابي هو إصرار هذا الأب، الذي يعتبر نفسه من الطبقة المثقفة، على كون تدريس مادة القرآن الكريم في المدارس يعتبر عبئا ثقيلا على التلاميذ، ويشغلهم على تحصيل المواد العلمية المفيدة، واقترح أن يتم استبدال هاته المادة بمادة الفنون الجميلة والتي من شأنها أن تنمي حاسة الذوق والجمال لدى الأطفال، كما صب هذا الأب غضبه على المقررات التعليمية التي تثقل كاهل الأطفال وتجبرهم على حفظ القرآن. ومما زاد الطين بلة، هو اعتراف هذا الأب بكونه يستشيط غضبا كلما دخل إلى منزله ووجد ابنته تستظهر القرآن الكريم، عوض مراجعة الرياضيات والعلوم. هذا الأب الذي جنى على ابنته في الدنيا، قبل أن يحاسب عليها في الآخرة، أقدم له فوق طبق من ذهب نموذج الطفل جعفر الذي يمثل مجموعة من الأطفال سهر عليهم آباؤهم وكونوا منهم مشاريع مستقبلية، أطفال لم يمنعهم حفظهم للقرآن من تنمية قدراتهم الفكرية والمعرفية فحسب، بل ساعدهم أيضا في تفجير إبداعاتهم ومواهبهم الفنية. جواد الشفدي