قد يكون تقسيم الأوطان فيه شفاء للغليل، وقد يكون تغيير الحدود ساترا متقدما للحماية من ظلم واضطهاد الآخرين، وقد يكون إعلان الاستقلال تحقيقا لطموحات فردية أو جماعية طال انتظار لحظتها. لكن هل هذه هي الطرق الوحيدة التي يمكن أن يتعايش الناس فيها بأمن وسلام واطمئنان؟ وهل هي السبيل الوحيد لبناء الاوطان التي تخلخلت ركائز استقرارها؟ وهل هي الحصن المنيع من عدم العودة إلى الحروب والتطهير العرقي، خاصة في البلدان ذات التاريخ الموغل في القدم، التي انصهرت قومياتها وطوائفها ومذاهبها وأديانها وقبائلها وعشائرها، إلى حد باتت فيه كالعنصر الفيزيائي الذي اتحد مع عناصر اخرى، فكوّن مركبا جديدا لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله، وإعادته إلى حالته الفلزية الأولى؟. لقد استقل جنوب السودان فأوقف شمال السودان أنبوب النفط الذي يمر عبر أراضيه، وحصلت معارك طاحنة بين الطرفين في أكثر من مكان، وحدثت مذابح قبلية داخل الدولة الجديدة، وأصبح لدى عمال الجنوب الذين يعملون في دولة الشمال مشكلة الاقامة. المشكلة نفسها لازالت موجودة في البوسنة وكوسوفو بعد عشرين عاما من التقسيم، وكذلك بين أرمينيا وأذربيجان. إذن لا ضمان بحياة جديدة ورخاء دائم في ظل حدود جديدة، كما يظن البعض، بل هو إضافة جديدة لمشاكل مستعصية ودمار مستقبلي لا يمكن التكهن بنتائجه، كما أن من يراهنون على حدود الجغرافيا وحدها هم في وهم كبير، لأنها لم تعد لها تلك المهابة التي عرفناها سابقا. المؤسسات الحقيقية هي العامل الوحيد القادر على حل كل الاشكالات والمعضلات السياسية والامنية والاقتصادية الداخلية، وهي التي تبعث الإيمان بالأمن والسلام بين المجتمعات المختلطة، أما الحدود الطائفية والإثنية والدينية، فهي مجرد سواتر لمعركة قادمة يتخندق خلفها الناس، انتظارا للحظة اندلاع حروب جديدة، أقسى وأمّر من كل ما عانوه في زمن الدولة الواحدة. عراق اليوم، وفي ظل الدولة الواحدة، يتحدث الجميع فيه عن مناطق متنازع عليها، كركوك هل هي كردية أم عربية؟ سامراء والنخيب وجرف الصخر وديالى، هل هي شيعية أم سنية؟ سهل نينوى وتلعفر هل هما للمسيحيين أم التركمان أم الإيزيديين؟ ويعتقد جميع من يطرح هذه التساؤلات أن الانفصال هو الحل الوحيد، إلى الحد الذي تحول فيه أصحاب الأفكار العابرة للحدود القومية والأممية إلى أكثر دعاة الانفصال. فقد تخلى البعض من الشيوعيين والبعثيين عن شعارات الوحدة الأممية وأمة عربية واحدة، وباتوا من عتاة الداعين للدويلات الطائفية، وتنكر بعض الإسلاميين للوحدة الاسلامية العابرة للقوميات، وباتوا من دعاة الدويلات المذهبية. لكن كل هذه الأصوات تنسى بأن الحدود الجديدة تفرض مصالح اقتصادية وسياسية جديدة، وأمنا قوميا جديدا، كلها عوامل تنمية لعداء تركي كردي، وإيراني كردي، وعربي كردي، ويتطلب حروبا أكثر شراسة مما سبقها في ظل الدولة الواحدة. حتى النظام الفيدرالي الذي يعتبره البعض حلا للمعضلة العراقية، لم يعد صالحا لإدارة العراق، لأن طبيعة النظام الفيدرالي طبيعة إدارية معقدة تحتاج إلى حواضن مجتمعية واعية، وحواضن اقتصادية متطورة، ونخب سياسية مدنية قادرة على إدارة الخلافات وتحقيق مصالح الجميع، وهذه كلها غير موجودة في البلد اليوم، حيث نفخ الجميع في الذاكرة العراقية وجعلها منقسمة، وتم تشتيت النسيج الاجتماعي فبات مهلهلا، وجيء بنظام سياسي قائم على أساس المحاصصة، فتحول المجتمع إلى مجموعة كانتونات عرقية وطائفية وإثنية، وأن كل واحدة منها لها قواها السياسية التي تتناغم مع فضائها الإقليمي. لذلك فإن استدعاء النظام الفيدرالي ضمن استحقاقاته العالية وشروطه الضخمة، سوف يكون عاملا فاعلا في تقسيم البلد، وليس المحافظة على وحدته كما يظن البعض، لأن الاستقرار هو نتيجة، يأتي من مقدمات أساسية قوامها الوحدة المجتمعية، والتناغم السياسي الفاعل والخلاق، والقاعدة الاقتصادية المتينة، وهذه كلها بعيدة المنال في العراق. كما أننا على الرغم من كل هذه المعاناة المستمرة منذ الاحتلال في عام 2003م وحتى اليوم، لم تبرز لدينا نخب تاريخية وطنية قادرة على تخطي اللحظة التي انطلقت منها المأساة العراقية، وبالتالي وضع الدولة على السكة الصحيحة. صحيح أن هيئة علماء المسلمين في العراق، قفزت في كل طروحاتها على المفاهيم التقسيمية الجديدة التي ظهرت في الواقع العراقي، وتقدمت على الآخرين في خطابها الوطني الجامع، وبقيت في حالة تحصين ذاتي مستمر، ضد كل الأفكار والاستفزازات التي كانت تروم جرها إلى الطبيعة السلبية الجديدة التي برزت، كي تصبح قوة في ملعب طائفة دون أخرى، لكن قوى الواقع المحلي والإقليمي الجديد كانت أقوى منها ماديا وسياسيا، فحاربتها من منطلق من ليس معنا فهو ضدنا، على الرغم من أن من وجهوا سهامهم إليها كان من المفروض أن يكونوا حلفاء تقليديين لها. السؤال الأهم اليوم هو إلى أين نحن ذاهبون؟ ثم ما العمل؟. إن البلد في وسط تسونامي الطائفية الذي يضرب المنطقة ككل وليس العراق وحده، وإن أجواء الحرب الطائفية التي خيمت على البلاد بين الأعوام 2004م و2008م عادت للظهور من جديد، بدليل ارتفاع القتلى ومستوى الصراع الطائفي والعنف المتصاعد، وهو أحد الأقطار الأربعة في محور طهران، وبالتالي فهو بين فكي مرشد إيراني وعربي وكردي وتركي، لكن ميزته عن الأقطار الأخرى أنه الوحيد الذي يتصف بأنه دولة عازلة، لأنه يقع بين العرب والأتراك والإيرانيين. فالإيرانيون عائدون بقوة إلى المشهد بصفة حماة الشيعة، والأتراك عائدون بقوة بصفة حماة السنة، والعرب يريدونه حجابا أماميا لصد النفوذ غير العربي، لكنهم لا يريدونه كما كان قويا مهابا، لأن أحداث الكويت لازالت عقدة لدى البعض منهم، أما الساسة السنة والشيعة والأكراد وغيرهم، فكل يريد اقتطاع نصيب من هذا الرداء كي يصنع امبراطوريته الخاصة. إذن ما العمل؟ إن الحل الوحيد لما يجري في العراق هو الاستغلال الشعبي للميدان، لأنه الأداة الفعالة الوحيدة ليس للضغط على السلطات وحسب، بل هو الوحيد القادر على هزيمة السلطة ومشروعها ومنهجها، لذلك يجب العمل على إذكاء الشارع باستمرار ضد كل المشاريع التي يروج لها الجميع. عجبا كيف يخرج أهل العراق بمسيرات مليونية لزيارة الأضرحة المقدسة لديهم، ولا يخرجون بمسيرة نصف مليون إنسان احتجاجا ضد من يقتلونهم يوميا ويسرقون أموالهم ومستقبل أبنائهم. إذن لتكن إثارة الوعي الشعبي هي الرهان الأخير لكل من يحب هذا الوطن.