منذ اليوم لن يسمع أحد صوت العقيد الليبي معمر القدافي يدعو إلى التخلي عن الصابون الإمبريالي والاستعاضة عنه بمسحوق يصنع من البيض المحلي، فقد اختار بطل الأول من شتنبر أن يدخل بيت الطاعة الأمريكي وينهي عهد النضال اللغوي الذي لم يزده إلا توريطا. إن إقرار الجماهيرية الليبية بامتلاكها أسلحة الدمار الشامل والتخلي من جانب واحد عن مشروعها النووي في هذا التوقيت بالتحديد يعتبر هدية مجانية للرئيس الأمريكي جورج بوش الذي ارتفعت شعبيته وسط الرأي العام الأمريكي بست نقاط خلال أسبوع واحد منذ الإعلان عن القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى الإعلان عن الخطوة الليبية المفاجئة، بعد تسعة أشهر من المفاوضات السرية بين طرابلس وخبراء أمريكيين وبريطانيين. ويبدو أن العقيد الليبي قد استوعب جيدا دروس غزو العراق وإسقاط نظام حزب البعث الحاكم، ودرس الضغوط الأمريكية على إيران للتوقيع على البروتوكول الملحق باتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية الذي يجيز التفتيش المباغث للمواقع النووية الإيرانية، والضغط الموجه إلى دمشق، فاختار استباق الضغوطات الأمريكية والبريطانية عليه. وتترجم المبادرة الليبية بالإعلان الطوعي عن التخلي عن برامجها النووية ارتباك السياسة الليبية التي طبعت دائرة صناعة القرار في طرابلس في الأعوام القليلة الماضية، فقد جربت القيادة الليبية التوجه ناحية شمال إفريقيا والمراهنة على اتحاد المغرب العربي المجمد بسبب الخلافات العديدة بين دوله خاصة المغرب والجزائر، ثم جربت التحول نحو القارة الإفريقية بدون نتيجة، لترسو أخيرا في المحطة الغربية والأوروبية، كمحاولة أخيرة للخروج من العزلة الإقليمية والدولية. ولتحقيق هذه الغاية وضعت القيادة الليبية يدها في جيبها ودفعت مبلغ 7,2 مليار دولار تعويضات لضحايا طائرة بنام التي سقطت فوق سماء لوكيربي في بريطانيا عام 1988 مخلفة 170 قتيلا، ودخلت في مفاوضات مع باريس لتسوية قضية يوتا الطائرة التي سقطت فوق سماء النيجر، وأقرت في رسالة إلى مجلس الأمن في شهر غشت الماضي مسؤوليتها المدنية عن حادث لوكيربي، معززة بذلك الاتهامات الأمريكية لها بالوقوف وراء العمليات الإرهابية. وقد كان ذلك الاعتراف في حقيقة الأمر بمثابة قيد وضعته الجماهيرية الليبية في رجلها، وكان واضحا أن الخطوات التي ستلي ستكون من النوع المفاجئ، مفاجأة السياسات الليبية المتقلبة. وقد أعطت ليبيا خلال السنتين الأخيرتين أكثر من مؤشر على عمق التحولات التي طرأت على سياساتها الداخلية والخارجية، وكان العقيد الليبي من أول المبادرين إلى إدانة تفجيرات الحادي عشر من شتنبر 2001 في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأيد الهجوم العسكري الأمريكي على حركة طالبان في أفغانستان بشكل غير مباشر، وقدمت المخابرات الليبية معلومات لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) عن تحركات الحركات الإسلامية وعناصر زعمت أنها تابعة لتنظيم القاعدة، وخفف القدافي من حملاته الروتينية ضد الإدارة الأمريكية، وبدلا عن ذلك شن حملات قوية على بعض الأنظمة العربية خاصة الخليجية، ففهمت الإدارة الأمريكية هذه الرسائل التي كانت تسعى من ورائها ليبيا إلى تطبيع علاقاتها مع واشنطن ولندن، ثم جاءت الخطوات التالية لطي ملف لوكيربي والاعتراف بالمسؤولية وتسليم المواطنين الليبيين عبد الباسط المقرحي وخليفة فحيمة لمحاكمتهما في نيقوسيا، حيث حكم على الأول بالسجن مدى الحياة فيما أفرج عن الثاني. إن القدافي بعد نحو أربعة عقود من تسيير البلاد بيد من حديد، واحتراف الحرب الكلامية ضد أمريكا والغرب، أصبح الآن يشعر بالتعب بحسب الكثير من المراقبين الغربيين، وصار تركيزه على الوضع الاقتصادي الداخلي، وهو يراهن على جلب الاستثمارات الأجنبية لتنشيط اقتصاده بعد الإعلان قبل أقل من ثلاثة أشهر عن السير في نهج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية بديلا عن الاقتصاد الموجه، والمراهنة على رفع عدد السياح الأجانب إلى ثلاثة ملايين سائح في أفق عام .2008 وفي الوقت الذي يطرح فيه الملف النووي الصهيوني وتعود فيه مسألة التسلح بمنطقة الشرق الأوسط إلى الواجهة بفعل الضغوطات المتوالية على طهرانودمشق، فإن المبادرة الليبية تأتي لتسحب البساط من تحت هاتين الدولتين وتمنح المسوغات للرئيس الأمريكي جورج بوش للاستمرار في توجيه الضغوطات ناحية الدول الأخرى ووضع سياسة دولية عادلة فيما يتعلق بالتعامل مع التسلح النووي، ورفع حالة التمييز التي تنهجها الإدارة الأمريكية تجاه هذه القضية إدريس الكنبوري