حُكام "قصر المرادية" رأوا في الورقة الصحراوية نقلاً للصراع من الملعب الجزائري إلى الملعب المغربي، وذلك بقرصنة مُطالبة المغرب بالصحراء الشرقية، وشَغْله بمشكلة الانفصال في الصحراء الغربية. وليس هنا مَقام تفسير ما جرى من مياه تحت جسر الأحداث السياسة المغربية وحساباتها الداخلية والأخطاء المرتكبة آنذاك. ونكتفي بالإشارة إلى أنه تم استغلال الصراع في الصحراء لتصفية الحسابات الداخلية بين العَسْكر وأصحاب النزعة التحكمية التي جسدها ذو الوزارتين وصاحب الانقلابين الجنرال أوفقير، من جهة، وبين الحركة الوطنية ومطالبها الديمقراطية في فترة تميزت بمخاض عسير للنظام السياسي المغربي الجديد، من جهة أخرى. وبين هتين الجهتين المتصارعتين كان القصر يقف تارة على هذه الضفة وتارة على الضفة الأخرى، بحسب ما تمليه الظروف واتجاهات الرياح المتقلبة بين انقلاب عسكري فاشل أو "ثورة موءودة" لليسارأخذت في مارس 1973 شكلاً مسلحاً. استطاع المغرب رغم كل الظروف الداخلية والخارجية أن يصمد في وجه بتر أطراف غالية من جسده هي الساقية الحمراء ووادي الذهب، بفضل الحس الوطني العالي لدى المغاربة وإجماعهم بكل أطيافهم السياسية على الدفاع عن وحدتهم الوطنية والترابية. ولم يشُدّ عن هذا الإجماع أحد من المغاربة إلا بعض اليسار الراديكالي، ليس تشكيكاً منه في الوحدة الوطنية والترابية، ولكن لحسابات مكيافلية لإضعاف خصمه السياسي الذي يمثله القصر. وكانت مواقف الوحدويين من أبناء الصحراء حاسمةً في إلقام الحجر لخصوم المغرب من نظامي القذافي وبومدين. وقد تجلى ذلك بالخصوص في أسد الصحراء خطري ولد سيدي سعيد الجماني، شيخ قبائل الركيبات، ورئيس مجلس "الجماعة" الذي كانت تخطط إسبانيا الاستعمارية لجعله رأس حربتها في فصل الصحراء عن المغرب. وإذا به يفسد حسابات المستعمر ويساند الشرعية التاريخية والوطنية بالتحاقه بالمغرب ومبايعة الملك. وقد شكل هذا الحدث في حدّ ذاته "تقرير مصير" ساكنة الصحراء، لو عرف المغرب كيف يدافع عنه في حينه ! إلا أن الفترة التي عرفت ميلاد هذا النزاع خاصة بعد المسيرة الخضراء، صاحبها تمدد المعسكر الشرقي وأيديولوجيته مما أعطى للجزائر المحسوبة على الدول "الاشتراكية" أفضلية نسبية، فتناسلت الاعترافات بالكيان الوهمي من دول العالم الثالث التي كانت جيوشها تقلب الأنظمة ليلاً وتعلن في اليوم الموالي أنها ثورات اشتراكية. ومما زاد من امتياز "avantage" النظام الجزائري هو تزامن هذه الفترة مع ارتفاع أسعار النفط إلى عتبة 40 دولاراً بعد حرب أكتوبر 1973 ضد الكيان العبري المعروفة بالصّدمة النفطية. وظلت الحرب سجالاً بين الجزائر والمغرب، استطاع خلالها هذا الأخير أن يثبت تورط الجزائر المباشر في الحرب من خلال أسر أزيد من 100 ضابط وجندي جزائري خلال معركة أمكالا الشهيرة في يناير 1976. ولا بد من الوقوف هنا على تفصيل تاريخي مهم، فخلال هذه المعركة التي اعتدى فيها الجيش الجزائري على الأراضي المغربية وتوغل فيها لعشرات الكيلومترات، مارست الجزائر حملة تضليلية عالمية بادعائها أن المغرب "الرّجعي" هو الذي هاجم جزائر "الثورة" وليس العكس. وقد بلغ الكذب والافتراء و"البروبكاندا" ذروتها في تصريحات هواري بومدين واتصالاته برؤساء مصر وتونس التي نشرتها وكالات الأنباء في حينها،يتهم فيها المغرب زوراً بالاعتداء على الأراضي الجزائرية. ولم تنكشف هذه الحملة التضليلية للرأي العام الدولي وخاصة العربي إلا بعد زيارة الوساطة التي قام بها حسني مبارك، نائب الرئيس السادات، إلى كل من الجزائر والمغرب واطلاعه على موقع المعركة وتحديده من خلال الخرائط الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التضليل شكل دأب الدبلوماسية الجزائرية تجاه المغرب في كل الأزمات بين البلدين، بدءاً بحرب الرمال 1963 حين كانت السبّاقة للهجوم على كل من مدينة فجيج ومراكز حاسي بيضة وإيش المغربية. بينما لا تزال تدعي إلى اليوم أن المغرب اعتدى عليها ومارس عليها ما تسميه "الحُكْرة"، وهي أكذوبة تُدرّس للجزائريين في مُقرّراتهم الدراسية لتأجيج الأحقاد، وطمس الحقائق وخلق عدوّ خارجي مفترض.وقُلْ مثل ذلك في الهجومات المُتكررة في العام 2014 على مراكز الحراسة الحدودية، وسلب الرّحّل قُطعان ماشيتهم، وأخيراً وليس آخراً حرب المخدرات التي تشنها على المغرب متهمة إياه بتصدير "الكيف" و"الشيرة"، بينما تغرق أسواق المغرب بمئات الآلاف من الحبوب المهلوسة المسماة "القرقوبي".. وبالرجوع إلى قضية الصحراء، حَقّق المغرب الحسم على الأرض أواخر الثمانينات حين استكمل بناء جداره الأمني الواقي. وكان ذلك بمثابة شهادة وفاة الحسم العسكري للانفصاليين الذي ظل شعاراً يردّده بومدين وأذنابه الانفصاليون.ومن بين هؤلاء المدعو محمد عبد العزيز، الذي كان قد صرح في 23 يناير 1981 لوكالات الأنباء أن فكرة الاستفتاء متجاوزة، وأن الحسم سيتم على الأرض بالسلاح!الشيء الذي يتناقض مع ما يدعو إليه اليوم، كما قال الشاعر محمود درويش: يدعو لأندلس إن حوصرت حلبُ. وأمام هذا الوضع الجديد الذي صنعه المغرب على الأرض، وأمام تصاعد الأزمة الاقتصادية والاحتقان الاجتماعي في الجزائر والذي تُوّج بأحداث الربيع الجزائري في أكتوبر 1988، ونظراً لتداعيات بداية انهيار المعسكر الاشتراكي مع ثورة "ليش فاليسا" في بولونيا، لم يعد من خيار لدى الخصوم إلا البحث عن حل سياسي من خلال الدخول في مسلسل المفاوضات غير المباشرة ثم المباشرة بإشراف أممي مع نهاية الثمانينات. وكان قد مهد له لقاء بين الحسن الثاني والشاذلي بن جديد على الحدود بين البلدين بوساطة من العاهل السعودي الملك فهد. ثم جاء إعلان قرار مجلس الأمن رقم 690 سنة 1991، والذي أرسى وقف إطلاق النار، وأُحدِثت بموجبه البعثة الأممية لإجراء الاستفتاء بالصحراء، المعروفة اختصاراً "بالمنورسو". وتم تحديد يناير 1992 كسقف زمني لإجراء الاستفتاء، أيْسنة واحدة من تاريخ وقف إطلاق النار. فمن الذي عرقل هذا الاستفتاء الموعود؟ وماذا جرى بعد ذلك؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المقال القادم.