منذ ظهرت نتائج الانتخابات التركية وحتى الآن لم يتوقف الكثيرون ممن يرون أنفسهم حكماء هذا الزمان عن تقديم نصائحهم الثمينة للإسلاميين العرب بضرورة الاستفادة من التجربة التركية والفوز الكبير الذي حققه حزب "العدالة والتنمية"، ما ينطوي على افتراض بأنهم وحدهم القادرون على القراءة وأخذ الدروس، في حين يصم الآخرون آذانهم ويغلقون عقولهم عنها. الجانب السيئ في المقارنة تبدأ المشكلة في خطاب أولئك حين يصار إلى مقارنة دول تقول دساتيرها إن دين الدولة هو الإسلام، وهو المصدر الأساسي للتشريع، مع دولة يقوم دستورها على العلمانية، وينص على أن الجيش هو حارس تلك العلمانية، كما تنص قوانينها المكتوبة وغير المكتوبة على مطاردة كل ما هو إسلامي بدءا بالحجاب، وليس انتهاء باقتناء ضابط في الجيش سجادة صلاة، أو امتناعه عن شرب الخمر في مناسبة عامة. في تركيا -على كل ما يقال عن سطوة العسكر فيها وتحكمهم بالقرار من وراء حجاب- ديمقراطية حقيقية وتداول على السلطة ذلك هو الجانب السيئ في المقارنة. أما الجانب الثاني الذي يتجاهل المعطيات الموضوعية على الأرض، فهو المقارنة بين التجربة الديمقراطية التركية ومثيلتها السائدة عربياً. ذلك أن في تركيا -على كل ما يقال عن سطوة العسكر فيها وتحكمهم بالقرار من وراء حجاب- ديمقراطية حقيقية وتداول على السلطة. ولعل السؤال الضروري هنا هو: ماذا لو طبق قانون الانتخابات التركي في أية دولة عربية؟ كم هي النسبة التي سيحصل عليها الإسلاميون؟ لقد حصل "حزب العدالة والتنمية" التركي على 34.3% من الأصوات فيما يرجح أن يحصل الحزب الإسلامي المقابل في أية دولة عربية على أعلى من هذه النسبة لو طبق ذات القانون. ونذكّر بأن قانوناً مشابهاً كان قد طبق في الجزائر، فكان أن حصلت جبهة الإنقاذ على الغالبية. أما قانون المغرب فهو مختلف إلى حد ما، ومع ذلك فقد حصل الحزب الإسلامي المشارك على 13% من الأصوات على رغم أنه الحزب الإسلامي الثاني، وبفارق في الشعبية لا بأس به عن الأول "المقاطع" ممثلاً في "حركة العدل والإحسان". ملف الديمقراطية والتداول على السلطة ينسحب بالضرورة على قصة البرامج، إذ من المنطق أن تقدم البرامج حين تكون لها فرصتها في التطبيق. ومع ذلك لم تدخل الأحزاب الإسلامية التي شاركت في الانتخابات في الدول العربية المنافسة على أساس شعارات رنانة كما يقول أولئك أو يرددون، بل قدمت برامج حقيقية للاقتصاد والسياسة والاجتماع، على رغم إدراكها التام أنها لن تجد أدنى فرصة للتطبيق، لأن الديمقراطية العربية لا تتعدى الديكور، حيث تنفيس المعارضة لأجل مسمى، ثم تحجيمها بعد ذلك. رضينا بالهم ولكن إن استقراء ما تحصل عليه بعض الأحزاب الحاكمة في الدول العربية من نسب فلكية، إنما يعني أن تلك الأحزاب قد بنت للناس جنّة على الأرض، فأية فرصة للمعارضة للوصول إلى السلطة كي تطبق برامجها؟ وما قيمة أن تقرأ على الناس كل صباح نصوص تلك البرامج فيما هي مشغولة بالحصول على الحد الأدنى من حرية التعبير وانتقاد الأوضاع القائمة من دون الخضوع للملاحقة بمختلف أشكالها؟ لقد بات لسان حال أحزاب المعارضة الإسلامية يقول: "رضينا بالهم ولكن الهم لم يرض بنا" كما هو مضمون المثل الشعبي، فقد قبلت بأقل بكثير من حصتها في الشارع السياسي، وأعلنت موافقتها على دساتير لا تنسجم تماماً مع قناعتها، وقوانين "ديمقراطية" ترفضها, ولكن ذلك كله لم يمنحها الرضا، ولم يخرجها من دائرة الملاحقة والتحجيم، فهي تبدأ تجربتها بعدد من المقاعد لا تلبث أن تبدأ بالتراجع من خلال القوانين الانتخابية المشوّهة، أو الإجراءات المعروفة، أو التزيين المفضوح حين لا يجدي سواه. أردوغان وأربكان والشعار الإسلامي ذهب بعض الحكماء إياهم إلى أن النتيجة التي حصل عليها أردوغان لم تأت إلا نتاجاً لابتعاده عن البرنامج والشعار الإسلامي. والحال أن الأمر لم يكن كذلك، فهو لم يحصل على النسبة التي حصل عليها لأنه تجاهل أصل مشروعه وانسجم مع النظام العلماني نعود إلى تجربة (أردوغان) فقد ذهب بعض "الحكماء" إياهم إلى أن النتيجة التي حصل عليها لم تأت إلا نتاجاً لابتعاده عن البرنامج والشعار الإسلامي. والحال أن الأمر لم يكن كذلك، فهو لم يحصل على النسبة التي حصل عليها لأنه تجاهل أصل مشروعه وانسجم مع النظام العلماني، فقد فعل الحزب الإسلامي الآخر (السعادة) ذات الشيء ولم يحصل سوى على 2.5% على رغم أنه الأعرق والمتبنى من قبل زعيم الإسلاميين والأب الروحي للفكرة (نجم الدين أربكان). لقد هزم (أربكان) لأن تجربته في الحكم كانت فاشلة حين كان رئيساً للوزراء ولم يتصد لضغوط العسكر، فحوّل الشارع المطحون بالفساد والتدهور الاقتصادي والمحارب في مظاهره الإسلامية آماله نحو رجل مثل (أردوغان) لا شكوك حول رؤيته الإسلامية، فضلاً عن كونه نظيف اليد وقوي الشخصية وله تجربة ناجحة في بلدية اسطنبول. (أردوغان) يصارع الآن في واقعا مريرا، حيث سيصطدم في حال تطبيق برنامجه بسطوة العسكر، فإذا تحداهم شطبوا حزبه بحكم محكمة سريع، وإذا طبق ما يريدون فقد تنكر لبرنامجه وخيب آمال الناس، أما إذا نجح في الموازنة فقد يحصل على دعمهم، لاسيما وهم يدركون حقل الألغام الذي يتحرك فيه. (أردوغان) اليوم سيبحث عن مسار علماني وديمقراطي على النمط الأوروبي لأن الإسلام محارب في تركيا أكثر منه في أوروبا، و(أردوغان) نفسه أرسل ابنتيه للدراسة الجامعية في الولاياتالمتحدة كي لا تضطرا لخلع الحجاب من أجل الدراسة في تركيا. إن إخراج الدين من تحت عباءة العسكر، وجعل الالتزام به أمرا حرا وطوعيا هو تحول مهم، لأنه سيعيد المجتمع إلى هويته المفقودة بفعل الحرب الرسمية عليها. والحال أن ذلك قد يكون إنجازا تاريخياً إذا تحقق. إذا طبقت العلمانية على النمط الأوروبي وكذلك الديمقراطية، وتحولت الحكومة إلى حاكم حقيقي لا مجرد واجهة للعسكر، فسيكون ذلك إنجازا، ولكن هل سيسمح له بالمضي في المخطط؟ نأمل ذلك وإن كان احتمالا ضعيفا. هذا المسار لا حاجة له في الدول العربية، فالإسلاميون هنا يكافحون من أجل ديمقراطية حقيقية وتداول على السلطة، وليس من أجل الحرية الدينية التي تتوفر في الغالب، وإن جرى حشر الجزء الأكبر منها في الإطار الرسمي. أما الدساتير فهي تعترف بالإسلام لكنها تتجاهله، باستثناء قوانين الأحوال الشخصية. ثم أين المشكلة في رفع شعار الإسلام في الانتخابات؟ أليست أحزاباً تستمد مرجعيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من الإسلام؟ ألا يستلهم الآخرون التجربة الغربية في الاقتصاد مثلاً، كما يفعل سواهم مع الاشتراكية؟ فلماذا يحرم الإسلاميون من طرح برامج مستندة إلى مرجعية إسلامية؟ الأحزاب الإسلامية والمشاركات الهامشية لقد قبلت بعض الأحزاب الإسلامية مشاركات هامشية في السلطة عبر وزارات تفرّغ من مضامينها وسلطاتها، ومع ذلك بقيت سياسة التحجيم بحقهم هي السارية، لأن جوهر العملية القائمة هي استمرار السلطة في يد الحزب الحاكم أو الفئة الحاكمة حتى لو عارضها أولياء تثبّت أرواحهم الملائكة ولهم أخلاق الأنبياء وإمكانات العباقرة. إلقاء تبعة المشاكل القائمة في الدول العربية بين الأنظمة والأحزاب أو التنظيمات الإسلامية على الطرف الثاني هو ظلم ما بعده ظلم لأن هذه المجموعات لم توفر تنازلاً إلاّ وقدمته ولا مساراً إلا واختطته إن إلقاء تبعة المشاكل القائمة في الدول العربية بين الأنظمة والأحزاب أو التنظيمات الإسلامية على الطرف الثاني هو ظلم ما بعده ظلم، لأن هذه المجموعات لم توفر تنازلاً إلاّ وقدمته ولا مساراً إلا واختطته، وها إن بعضها يطالب بمثل ما طالب به (أردوغان) وربما أقل كما هو الحال في تونس، وها إن جماعة كبيرة مثل (الإخوان) في مصر تقبل بنسبة 3% من مقاعد البرلمان، فيما يستكثرها الآخرون عليها. نعود إلى جماعة الحكماء إياهم، فقد كنا نأمل لو أنهم أشاروا إلى درس آخر من الانتخابات التركية يتمثل في عمق انتماء هذه الأمة إلى دينها وعقيدتها وهويتها على رغم ما تعرضت له من استهداف خلال عقود. أما الأهم من ذلك فهو تجاهل تلك الفئة لمعادلة الجماهير والنظر إليها كدهماء لا وزن لها، يمكن أن يحملها من شاء إلى أي محطة يشاء. والحال أنها جماهير عاقلة لا تمنح أحد شيكاً على بياض، فهي تنحاز إليه ما دام منحازاً إلى دينها وضميرها وهمومها، وحين يكف عن ذلك تتركه وتبحث عن آخر، والأحزاب الإسلامية تتعامل مع جماهير لها رؤيتها، ولها همومها ولها نظرتها للواقع المحيط بها ولا يمكنها إذا أرادت ثقتها سوى الانحياز إلى تلك الرؤى والهموم. تبقى مسألة أساسية لا بد من الإشارة إليها وهي أن الأحزاب الإسلامية المنبثقة عن جماعات إسلامية ليست أحزاباً سياسية وحسب، فالسياسة جزء من عملها الذي جوهره إعادة الاعتبار للإسلام بشموليته في حياة الأمة، وإذا لم يقرب أي نشاط لها من ذلك الجوهر فستكون قد فقدت البوصلة، وحين يحدث ذلك سينفض الناس من حولها ولن تعود مشكلة يجري طرحها والحديث عنها من أي أحد. أما إذا أصرت على رؤيتها فستنحاز ضدها السلطات القائمة، فيما لن تجد في الغرب من يترحم عليها لأن مصالحه لاتزال مع الأوضاع القائمة، قياساً بالحال الذي يعتقده عندما يسيطر الإسلاميون. بقلم/ ياسر الزعاترة كاتب صحفي فلسطيني