لعل تعبير تشعل شمعتها الخامسة هو التعبير الأدق عند الاشارة إلى انتفاضة الأقصى وهي تدشن عاما جديدا من المقاومة والنضال، بدلا من تعبير تطفىء شمعتها الرابعة، ذلك ان الاشعال هو نقيض الاطفاء، ولئن راج تعبير يطفىء عند الاشارة الى ذكرى ميلاد انسان او جهة ما، باعتبار ان عاما قد مضى أو انتهى، فانه من الضروري مراجعة هذا التعبير او تدقيقه عند الاشارة الى الذكرى السنوية لانتفاضة الاقصى المباركة، اذ اننا امام ظاهرة نضالية ابداعية تستحق التدقيق في اطلاق الاسماء والاوصاف عليها، حتى يستقيم المبنى مع المعنى، والاسم مع الوصف، ولئن كان بعض الناس يرون في ذلك تشدقا او تشددا وينظرون الى ان العبرة بالمسميات لا الاسماء، فاننا نطالب بالدقة في اطلاق الاسماء والصفات على الظواهر السياسية او الاجتماعية او النضالية، لأن ذلك من شأنه ان يشكل مدخلا صحيحا لفهم تلك الظواهر والتعامل معها، فالمقدمات الصحيحة تؤدي الى نتائج صحيحة، وعكسها يؤدي الى نتائج خاطئة. ونحن هنا لا نتوقف عند الاسم او الوصف فحسب، ولكننا نتجاوزه الى محاولة فهم طبيعة وابعاد الظاهرة النضالية التي نتناولها انتفاضة الاقصى، وهي التسمية التي اطلقت عليها، نتيجة انطلاق شرارتها الاولى من المسجد الاقصى وباحاته وساحاته. ان انتفاضة الاقصى تمثل ظاهرة نضالية اقتربت بفعلها الابداعي خلال الاعوام الاربعة المنصرمة من الاعجاز البشري، فنحن ازاء شعب تحاصره طائرات الاباتشي، وF61 وF81والدبابات والآليات العسكرية من كل جانب، برا وبحرا وجوا، وتقذف بحممها على العزل والمدنيين، فتدمر البشر والحجر والشجر في اطار عملية منهجية ومدروسة، وليست في اطار عشوائية وعفوية، هذه العملية تستهدف في محصلتها كسر ارادة الشعب الفلسطيني وصموده، توطئة لاخضاعه للبرنامج الصهيوني، الذي يقوم على فرض تسوية سياسية تتعامل في جوهرها مع الشعب الفلسطيني باعتباره اقلية قومية في اطار دولة يهودية نقية يتم منحه فيها كيانا سياسيا مجردا من مقومات الارادة والاستقلال، مؤهلا ليكون مستقلا في الشكل والظاهر، تابعا في الحقيقة والباطن! وعليه، فان اية عملية تقويم موضوعية لانتفاضة الاقصى، لا ينبغي ان تتوقف كما جرت العادة لدى بعض النخب السياسية والثقافية عند الحجم الكبير للتضحيات التي يسمونها خسائر، وعند الواقع العربي والاسلامي المترهل، والواقع الدولي المتراجع في دعمه للقضية الفلسطينية والمتواطيء عند بعض قطاعاته مع الكيان الصهيوني بحسبان ان تلك هي النتائج العملية للانتفاضة، والتي تم اعتمادها من طرف النخب المذكورة كمعايير لتقويم الانتفاضة، والخروج بنتائج محبطة، تستخلص في ضوئها خلاصة مفادها انه آن الاوان لهذه الانتفاضة ان تتوقف، وان استمرارها عملية عبثية وعدمية لا طائل من ورائها! نحن لسنا بصدد القفز عن الاعتبارات او المعايير التي يستند اليها اولئك المعارضون للانتفاضة، ولكننا نريد ان نحدد المعايير الاساسية التي ننطلق منها في عملية التقويم، وهو ما نراه يكمن في النظر الى طبيعة الانتفاضة واهدافها، فهذا هو الذي يمكن ان يقودنا الى تقويم صحيح وموضوعي، الانتفاضة.. عملية دفاعية تنظر بعض النخب الى الانتفاضة على انها عملية هجومية، خلافا لنظرتنا اليها، حيث نراها نحن عملية دفاع بامتياز عن النفس، اذ لا يعني تنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال وتوجيه ضربات له اعطاء صفة الهجوم عليها، فالانتفاضة هي جزء من عملية النضال ضد الاحتلال، واطلاق صفة الدفاع عليها تستند الى ان الشعب الفلسطيني يقاتل ويقاوم على ارضه، في حين ان العدو الصهيوني هو الذي يقاتل على ارض ليست هي ارضه، وهو في عملية هجوم مستمرة ضد شعبنا الفلسطيني منذ ان انشأ كيانا سياسيا هو اسرائيل واستمرار عملية الهجوم مردها الى ان بسط الاحتلال لسيطرته العسكرية على الارض الفلسطينية، وطرد وتشريد جزء كبير من الشعب الفلسطيني لم ينه القضية الفلسطينية، حيث بقي ملفها مفتوحا، ولم يتمكن بعد مرور اكثر من نصف قرن على اخضاع الشعب الفلسطيني، وسبب ذلك ان الشعب الفلسطيني بقي يدافع عن ارضه ومقدساته ونفسه طوال العقود الماضية، وكانت عملية الدفاع تعيش حالات مد وجزر، ولكنها لم تتوقف لحظة من اللحظات، حيث اتخذت في كل مرة اشكالا وصورا مختلفة، ولعل ظاهرة الانتفاضة هي احدى تجليات وابداعات هذا الشعب في دفاعه عن نفسه، إذن، فهمنا للانتفاضة انها اعلان مخضب بالدماء من الشعب الفلسطيني انه لم ولن يخضع لمنطق الاحتلال، ولم ولن يقبل بنتائجه التي يحاول الاحتلال فرضها عبر الامر الواقع، وهو اعلان كذلك انه ماض في المقاومة حتى جلاء هذا الاحتلال الغاصب، اشكال الانتفاضة وتحاول تلك النخب التي اشرنا اليها وسم وطبع الانتفاضة بطابع معين اختارته وحددته هي وحدها، وهو الطابع السلمي، والاقتصار على الحجر كوسيلة من وسائل المقاومة، حيث ترى في استخدام السلاح خروجا عن مفهوم الانتفاضة، وانحرافا عن اهدافها، وتلك هي وصاية نستهجنها من اولئك الذين لا يحق لهم احتكار تحديد وسائل واشكال للانتفاضة، فاستخدام الحجر ضد جندي صهيوني سيؤدي إلى اصابته بجراح، وقد يؤدي إلى وفاته، تماما كما هو استخدام المسدس او البندقية، الفارق هو ان نسبة الموت في الحالة الثانية ارجح واكبر!،، اما الطابع العنفي، فهو موجود في الحالتين مع اختلاف الدرجة! ان محاولة المقارنة مع الانتفاضة الأولى 1987 والانتفاضة الثانية 2000 بحسبان الاولى جلبت التأييد الاقليمي والدولي نتيجة الاقتصار على الحجر والوسائل السلمية (الاضراب، المظاهرات)، في حين جلبت الثانية السخط الاقليمي والدولي، نتيجة استخدام السلاح، هي مقارنة غير موضوعية، فأسلوب التعامل مع الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الاولى، وان كان يتسم بالقسوة والوحشية، ولكن العدو لم يستخدم الطائرات والصواريخ كما هو الحال في الانتفاضة الثانية، حيث سارع الى مواجهة انتفاضة الاقصى بأسلوب قاس ووحشي وغير مبرر، واعطيت الاوامر باطلاق الرصاص دون تمييز، فاستشهد اطفال ورضع محمد الدرة، ايمان حجو على سبيل المثال لا الحصر، واعطي الضوء الاخضر للطائرات بالقاء القنابل والصواريخ لدرجة ان قنبلة فراغية وزنها طن، القيت على بناية سكنية فدمرتها كاملة وقتلت الاطفال والنساء والشيوخ بحجة اغتيال القائد صلاح شحادة! لم يكن امام هذه الوحشية والاجرام والارهاب، الذي يصعب وصفه، الا مواجهته بسلاح قد لا يرقى ولا يكافىء السلاح المستخدم من قبل هذا العدو، ولكنه يثخن فيه، ويشكل عامل توازن نفسي، فالعمليات التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة هي التي كانت على الدوام تشكل رافعة لمعنويات هذا الشعب، وعامل صمود له، ومانعا من انهياره في مواجهة حملة لا نبالغ اذا وصفناها بانها الأكثر وحشية ودموية يتعرض لها شعب في التاريخ المعاصر. إذن، المقاومة المسلحة هي جزء من هذه الانتفاضة وليست خارجها، ولئن طغت على وسائل المقاومة الاخرى، فلأن طبيعة المواجهة والصراع اقتضت ذلك، فأدوات الصراع ووسائله تتحدد دائما وفقا لطبيعته ومقتضياته، وليس العكس. الثمار السياسية للانتفاضة وحيث ان بعض تلك النخب يصر على تحقيق ثمار سياسية واضحة لاي فعل نضالي، وهو ما يريدونه من الانتفاضة الحالية، فانني احيلهم الى مشروع الانسحاب من قطاع غزة، فهذا المشروع الذي لم يجد طريقه للتنفيذ حتى الآن، وهناك شكوك تثار حول امكانية تنفيذه خصوصا في ظل الرفض الواسع له في اوساط الحزب الحاكم الليكود وفي قطاعات واسعة من المجتمع الصهيوني. هذا المشروع يمكن النظر اليه على انه ثمرة سياسية ان جاز التعبير لانتفاضة الاقصى اذ ان اقدام شارون على طرح مشروع عملي للانسحاب من قطاع غزة كان يريده احادي الجانب ودون اتفاق سياسي يدل على عمق المأزق الذي يعيشه هذا الكيان والذي لم يكن ليتحقق لولا الضربات المؤلمة التي وجهتها المقاومة المسلحة لهذا الكيان حيث بات قطاع غزة مستنقعا لاصطياد الغزاة وبات قاعدة لانطلاق الصواريخ التي يتم الاصرار على وصفها بالبدائية من قبل تلك النخب باتجاه المستوطنات الصهيونية وبات قاعدة لتصدير المقاومين الذين لم تعد مهماتهم تقتصر على قطاع غزة بل اخذوا ينطلقون باتجاه مناطق 48 عملية اشدود مثالا. اذن التفكير العملي وليس النظري كما كان سابقا بالانسحاب من قطاع غزة هو ثمرة لهذه الانتفاضة وبغض النظر عن محاولات شارون للالتفاف على هذا الانتصار الفلسطيني وافساده عبر قبض ثمن انسحابه من قطاع غزة بالبقاء في الضفة الغربية ونحن هنا وبعيدا عن سيناريوهات الانسحاب والمدى الذي يمكن ان يصل اليه فاننا نرى في ذلك بداية لاندحار المشروع الصهيوني الذي بدأ يتعرض لتراجعات يمكن للمراقب الموضوعي ان يتأملها ومن ذلك بناء الجدار الأمني الفاصل فهذا الجدار الذي يستدعي الى الذاكرة الغربية جدار برلين الشهير فتنعقد المقارنات معه بوصف ذلك الجدار مثالا للعنصرية بغض النظر عن الزاوية المختلفة التي ننظر فيها الى الجدار وهو ما يضرب مصداقية الشعارات التي قام عليها هذا الكيان والتي تستند الى الديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها من شعارات الحداثة والمعاصرة. اذن هذا الكيان الذي بشر بأنه سيكون واحة للديمقراطية ونموذجا يحتذى به في الشرق الاوسط تحول الى أسوأ نموذج في انتهاك حقوق الانسان والعنصرية،، وهذا بفعل الانتفاضة التي عرته سياسيا واخلاقيا وكشفت حقيقته المخزية. يبقى ان نقول: ان الانتفاضة هي جولة من جولات الصراع مع هذا العدو الغاشم وهي محطة هامة في الطريق نحو التحرير باذن الله اما المعاناة والتضحيات والدماء فهي من مستلزمات الطريق اذ لا يمكن السير الا بها مستذكرين بذلك الآية القرآنية (ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون ويرجون من الله ما لا ترجون). محمد نزال-عضو المكتب السياسي لحماس