انقضى أسبوع المهرجان وعاد كل إلى حاله، منهم ليراجع أوراقه ومعتقداته حول السينما وحول رؤيته لها، ومنهم منتشيا فرحا بما أكل وشرب وكأن أسئلة السينما شأن لا يعنيه. ظلت قاعة «روكسي» بعروضها تحمل رائحة صلصة بيتزا ، المحل المجاور للقاعة ، وأحيانا رائحة الشيشة بطعم الفراولة المنبعث من مكان مظلم عصي على القبض. لكن فندق «شالة» بسيدته الجبلية التي دأبت على إعداد رغائف الصباح والتي تنذر السينمائيين ببدء الوليمة السينمائية على طعم العسل والزبدة ، ظلت أيضا حاضرة في ذاكرتي وذاكرة المهرجان الذي أطفأ شمعته السابعة ، ليكون قد وصل سماءه السابعة والذي هو مطالب بعد حفل عيد ميلاده هذا ، أن يتقوى أكثر ويحمل رؤية جمالية وخطا تحريريا أوضح وأعمق ليراهن على المستقبل بعين ثاقبة النظر متأنية الخطوة وبهيجة الطلعة. ليس همي في هذا المقام مناقشة أفلام الدورة ، سواء أفلام المسابقة أو أفلام البانوراما ، بحيث أن أدوات التحليل تبقى نسبية في مجملها، وأحيانا مستعصية على الإدراك نظرا للكم الهائل من الأفلام والتي قد تتطلب نوعا من الانتقائية في المشاهدة وفي التعامل. ما استوقفني هو درس فوزي بنسعيدي الذي فضل فيه عدم الحديث عن تجربته السينمائية ، ولكن إشراك الحضور في التفكير حول ماهية السينما وجوهرالسينمائي. الرجل بالرغم من بعض الإشارات لأفلامه وأفلام كبار المخرجين كبرغمان وغودار وويلز قدم بعض التأملات والأسئلة التي تعنيه هو من منطلق البحث عما هو جديد وما هو ملتزم بقضايا الفن والإنسان.لم يعط وصفات جاهزة لما يجب أن تكون عليه السينما لكنه عرف السينما بنقيضها.قائلا أن السينما ليست هي المسرح. وهناك أفكار تصلح للسينما وأخرى لا تصلح، بينما هناك سينمائيين وهناك أشباه سينمائيين.قد نختلف مع الرجل حول رؤيته الفلسفية للسينما كحاجة وجودية قلقة دائمة البحث عن أدوات لتغيير جلدها لا ترتكن للدوغما ولا للرسائل البريدية وكأنها»صندوق بريد الكتروني» لكننا نشاطر همه الدؤوب للبحث عن مواقع خفية وبعيدة . لقد أبدى امتعاضا بل نفورا من أولئك الذين يأخذون السينما بمنطلق مستسهل يستند لما أسماه بالتجربة أي عدد السنين أو عدد الأفلام التي حققها الفرد ليصبح سينمائيا بفعل التقادم أو الشرعية التاريخية، وكأن الأمر يتعلق بمسيرة حرفي أو موظف في البنك أو جندي يترقى ليصبح جنرالا أو قائدا. أكد فوزي على أن الاشتغال بالسينما هو بالأساس موقف ومسؤولية لكنه أيضا رؤية جمالية تصبح فيها الكاميرا وزواياها وحركاتها تعبيرا عن أخلاق قبل أن تكون تعبيرا عن جمال.هوا ستشهد بالكثير من المقولات كتلك القائلة أن الترافلينغ مسألة أخلاقية، وأن السينما ترسخ الذاكرة فيما يشجع التلفاز على النسيان. عاد فوزي لانشغاله حول الشكل والمضمون ، قائلا أن الشكل الجديد يعبر في حد ذاته بالضرورة عن مضمون جديد، مفضلا أن يسلك الطرق الوعرة ذات النفس المغامر عوض السياقة على الطريق السيار بطمأنينة وأمان.وقد كانت رسالته واضحة ولو أنه لا يعتبر نفسه حامل رسالة في الفن لآن مفهوم الرسالة لا يبقى هنا بالمفهوم الإخباري كما تفعل قنوات الإعلام ولكن رسالة للتأمل وإثارة الأسئلة. يبدو لي أن فوزي فضل أن يلعب في مناطق البين بين دون الارتكان ليقين ما، معتبرا ذلك خطرا حقيقيا على حرية الابتكار والخلق، مضيفا أن مأساتنا تأتي من تشبتنا بالتوابث والوصفات الجاهزة وكل الطرق الكلاسيكية للتعبير من خلال الصورة. أكد الرجل على ما أسماه بالرؤية الجديدة للسينما التي تنبع من الحس المرهف للتعبير عن الكون من دون الإشارة له بالأصبع وباللغة الواصفة قائلين «هذه قنينة» ، لكن التعبير بالوسيط السينمائي كلغة لا تشبها اللغات الأخرى، ولا يمكن التعبير عنها بالمقالة أو بالخبر التلفزيوني ، وإلا فما الجدوى من التقطيع المشهدي وما الجدوى من الإشارات والألوان. الرجل نبه العديد من الذين حصلوا على بطاقات مخرج أو تقني أن الأمر يتجاوز ذلك بكثير وأن الأمر بحاجة لثقافة بصرية حيث تتقاطع الهندسة المعمارية بالموسيقى وأنواع الفرجة بالسرد الفيلمي الذي حسب المخرج لا يخضع لوحدات الزمن والمكان ولكنه يظل مسائلا لأدواته من منطلق البحث الدائم والمضني عن عيون عاشقة قابلة للدخول في لعبة التركيب وإعادة التركيب لأشكال ومضامين تسعى لإغناء التجربة السينمائية كتجربة مشرعة على الأسئلة الكبرى للإنسان. يبدو لي، كإشارة لأفلام البانوراما ، أنه بالرغم من تقدم مستواها التقني وقد تنقص البعض هذه المكاسب التقنية ليكون عملهم أحسن وأجمل،لاحظت أن العديد ما زالت لديهم فكرة التوعية بقضية مجتمعية بأسلوب الخبر الصحفي تسكنهم. فيما لا تقدم بعض الأفلام أي إدراك بمفهوم السيناريو ككتابة ذات رؤية وبناء دراماتولوجي. هناك خصاص على مستوى الرؤية السينمائية وأسلوب المعالجة ، مما يدل أن مجهودا كبيرا لا يزال ينتظر الساهرين على قطاع التكوين في مجال الكتابة أولا قبل الحديث عن الإخراج.