كان برنامج يوم الجمعة المسطر من طرف الأصدقاء الصينيين، يتضمن زيارة إلى جبال التبت العالية المكسوة بالثلوج بإقليم "يونان" الشاسع، غير أن إلحاحي على مضيفي بأن أؤدي صلاة الجمعة مع المسلمين في هذه المنطقة، وبمدينة "ليتيان" بالذات، جعلهم يرضخون لرغبتي، ليغيروا البرنامج، الشيء الذي مكنني من قضاء يوم الجمعة رفقة مجموعة طيبة من مسلمي هذا القطر الصديق.. وهكذا وصلنا إلى مسجد ليتيان الموجود فوق هضبة تطل على المدينة حيث استقبلنا الإمام الشيخ نور الله رفقة بعض رواد المسجد رجالا ونساء، شيبا وشبابا، حيث قدم لنا الشاي طبقا للتقاليد الصينية العريقة، قبل أذان الظهر. دخلنا المسجد المتواضع حيث اصطف ما يقارب الخمسين نفرا من مختلف القوميات التي تسكن المنطقة، بينهم مسلم واحد من برمانيا والباقي كلهم من المدينة والأقاليم المجاورة... بعد تحية المسجد، قمت برفع آذان الظهر بطلب من الإمام الذي جلس إلى جانبي وبدأ يتلو سورة "يس" وأنا أتبعه رغم محلية نطق الشيخ، وبعدها طلب من الموجودين بالمسجد واحدا واحدا، تلاوة ما يحفظون من قصار السور، وختم بالدعاء، ثم قام أحدهم فقرأ الحديث المتعارف عليه، ليصعد الإمام بدوره إلى المنبر لإلقاء خطبتي الجمعة، حيث بدأ بالحديث باللغة العربية بفصاحة واضحة ليردفها باللغة الصينية لشرح ما فاه به من أحاديث نبوية وآيات قرآنية لمن لا يفهم لغة الضاد رغم حفظهم لبعض السور عن ظهر قلب. إثر أداء صلاة الجمعة دعا الإمام الحاضرين للقيام حيث صلى كل واحد بانفراد ثمان ركعات نفلا، وختم بالدعاء باللغتين العربية والصينية، واستجابة لرغبته قرأت خاتمة سورة البقرة مجودة على الطريقة المغربية التي أعجبوا بها غاية الإعجاب؛ حيث أحاطوا بي جميعا لأخذ صور تذكارية في بهو المسجد العتيق. بعد ذلك قام أحد المصلين من الأقلية الويغورية رفقة زوجته بتوزيع الفواكه (الموز والتفاح) على المصلين الذين غادروا المسجد، بقيت مع الإمام وزوجته السيدة فاطمة، التي هيأت لنا الشاي الأخضر في حين بدأ الشيخ نور الله في تكسير حبات الجوز وتقديمها لي. تجاذبنا أطراف الحديث عن أحوال المسلمين في الصين واطلعني على عدة نسخ من المصحف الشريف مخطوطة بيده، مع ترجمة معانيها إلى اللغة الصينية. هذه المخطوطات أمكنه كتابتها طيلة خمسين سنة أو أكثر، وكان يخبئها بخزانته ويخاف عليها من الضياع قبل أن يتمكن أخيرا من إظهارها للعيان بعد أن أصبح بإمكان المسلمين الصينيين الاحتفال بأعيادهم الدينية وممارسة طقوسهم دون إحراج عكس الفترات الماضية. وأغتنم هذه المناسبة لأدعو منظمة الإيسيسكو إلى مزيد من الاهتمام بالجاليات والأقليات المسلمة بجمهورية الصين الشعبية، لمساعدتها على نشر الدين الحنيف وتعاليمه السمحة ومدها بالمطبوعات اللازمة لذلك. فقد لاحظت بإعجاب وتقدير مدى تعلق المسلمين الصينيين بدينهم الحنيف وخاصة في جنوب جزيرة "هاينان" وبمدينة "سانية" بالتحديد، حيث المساجد منتشرة فيها بفعل قرب هذه الجزيرة من الدول الإسلامية المجاورة كماليزيا وأندونيسيا، كما أن أطراف هذه الجزيرة الرائعة الجمال وخاصة مناطقها السياحية الجنوبية تعج بالمسلمين من التجار والباعة المتجولين، حيث ترتدي نساؤهم الحجاب في الأسواق والفنادق، ويرددن السلام بلغة عربية سليمة، وهن يرحبن بنا داخل محلاتهن التجارية المبثوثة على طول الشاطئ الممتد على المحيط الهادئ، هذا الشاطئ الذي اعتبره المؤرخون والجغرافيون الصينيون لمدة طويلة نهاية العالم المعروف، حيث يلتقي البحر بالسماء على هذه الأرض ذات الطبيعة الاستوائية الخلابة، ولنا عودة إلى الموضوع إن شاء الله. عبد الرحمان الكرومبي