(( دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في إشعال فتيل الحرب العراقية الإيرانية و في مجازر الحرب الرهيبة)) بالرغم من كل ما قيل عن الإمبريالية الأمريكية و نفاقها و أكاذيبها و جرائمها فهناك المزيد . فاليوم الحكومة الأمريكية تدق طبول الحرب لشن حرب وقائية ضد العراق فالرئيس بوش مرارا و تكرارا يتحدث عن ضرورة تغيير النظام في بغداد مما يعني حملة عسكرية أمريكية قد تودي بحياة عشرات الآلاف من العراقيين . و المعيب و المقرف أن تفاصيل هذه الخطة الحربية لغزو العراق تتم مناقشتها على مستوى الرأي العام و على صفحات الجرائد و المنابر الإعلامية و يتحدثون عن 50.000 إلى 100.000 من القوات الأمريكية المستعدة لشن حرب صاروخية شاملة . حتى أن النيويورك تايمز تطرقت إلي بعض تفاصيل الاستعدادات اللوجستية حول الأراضي العراقية في عددها الصادر بتاريخ 19 من غشت الماضي . ليس هناك أي دليل لحد الآن يقول بأن العراق يستطيع تهديد أمريكا عسكريا أو أن له علاقة بأحداث 11 سبتمبر و بالرغم من هذا فإن حكام الإمبراطورية الأمريكية مازالوا يطالبون برأس صدام . لماذا ؟ لأن صدام حسين حسب زعمهم يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل و لديه الاستعداد لاستعمالها . و كدعم لموقفهم يتحدث موظفو إدارة بوش عن الغاز السام الذي استعمله العراق في حربه ضد إيران خلال الثمانينات و يعتبرون هذا الأمر دليلا يبرر شن الحرب عليه . و لكن صحيفة النيويورك تايمز كشفت مؤخرا أن الحكومة الأمريكية ساندت و بشكل مباشر الحكومة العراقية حين استخدمت هذه الأخيرة الأسلحة الكيماوية ضد القوات الإيرانية و الأقلية الكردية . فقد نشرت نفس الصحيفة تقريرا تحت عنوان " ضباط يؤكدون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ساعدت العراق حين استخدم الغاز السام " . و جاء في التقرير أنه و حسب ضباط كبار سابقون في المؤسسة العسكرية الأمريكية و الذين كانوا على علم مباشر بالبرنامج السري للحرب الإيرانية العراقية فإن المسئولين الأمريكيين زودوا العراق بمساعدات تقنية و مخططات حربية في وقت كانت فيه الاستخبارات تعلم جيدا أن العراق سيستخدم ذلك في شن حرب كيماوية لحسم الصراع لصالحه خلال حربه ضد إيران . و ليس خفيا أيضا أن الولاياتالمتحدة زودت أيامها العراق بمعلومات استخباراتية استقتها من أقمار التجسس و بمساعدات عسكرية و ذلك للحيلولة دون انتصار إيران في الحرب . و لكن الجديد في قصة التايمز هو المدى الذي وصل إليه التورط الأمريكي في تلك الحرب , فقد جاء في تقريرها أن أكثر من 60 ضابطا من استخبارات وزارة الدفاع ( DIA ) كانوا يمدون و بشكل سري القوات العراقية بتفاصيل التحركات الإيرانية على الأرض إضافة إلى مخططات تكتيكية للمعارك و خطط لضربات جوية و تقديرات لحجم الخسائر المتوقعة . و قد استمر برنامج البانتغون هذا حتى بعد أن بات واضحا أن المؤسسة العسكرية العراقية أضافت إلى ترسانتها أسلحة كيماوية و مخططات هجومية أعدها و اقترحها مستشارون عسكريون أمريكيون . و الاستنتاج الأولي من هذا أن المخطط الأمريكي كان هدفه أن يستخدم العراق الأسلحة الكيماوية . و قد جاء في مقال لبوب ودوارد نشرته الواشنطن بوست بتاريخ 12 ديسمبر 1986 أنه في سنة 1984 شرعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في إمداد العراق بمعلومات استخباراتية مما جعل هجمات غاز الخردل العراقية على الجنود الإيرانيين اكثر دقة مما أدى إلى مقتل اكثر من 50.000 جندي إيراني نتيجة حرب الغاز العراقية . يقول أحد ضباط استخبارات وزارة الدفاع للتايمز :" لم يفزع البانتغون لحرب الغاز العراقية فالأمر لا يعدو عن كونه طريقة جديدة في القتل لا غير , فالموت واحد سواء برصاصة أو مادة الفوسجين السامة ". و يضيف آخر لنفس الصحيفة قائلا : " استخدام العراقيين للغاز السام في معاركهم لم يكن محور الاهتمام الاستراتيجي بالنسبة لمستشاري ريغن فالأولوية في نظرهم كانت في منع إيران من الوصول إلى الجزيرة العربية و نشر الثورة الإسلامية في الكويت و المملكة العربية السعودية ". بمعنى أن حكام الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يمانعون في استخدام الأسلحة الكيماوية لقتل الآلاف من البشر مادام ذلك يخدم مصالحهم . قد نعتبر تقرير التايمز الأخير مفزعا لكنه خدش بسيط في سجل طويل و مظلم للجرائم التي ارتكبتها أمريكا خلال الحرب الإيرانية العراقية . و هذا يدعونا اكثر للتفكير بجدية في الدور الذي يمكن أن تكون قد لعبته أمريكا في تفجير الحرب بين الطرفين . ففي بداية سنة 1979 أطيح بشاه إيران و الذي كان يعتبر شرطي الولاياتالمتحدة في الخليج . و قام بعض الطلبة المسلحون في نوفمبر من نفس السنة باحتلال مبنى السفارة الأمريكية في طهران و تزامن ذلك كله مع اجتياح الاتحاد السوفيتي لأفغانستان . و دق ناقوس الخطر في الولاياتالمتحدة جراء كل هذه المتغيرات التي تهدد مجتمعة بإنهاء الهيمنة الأمريكية على نفط الخليج مما يفسح المجال أمام الاتحاد السوفيتي لإحراز نصر جيواستراتيجي كبير . لم تسكت الولاياتالمتحدة طويلا فردت على كل ذلك و كان من ضمن الجبهات التي ركزت عليها هي دعمها و دفعها للعراق لشن حرب على إيران . و أهدافها من وراء ذلك كانت تحجيم الخطر الإيراني الذي كان يهدد أصدقاء أمريكا في الخليج و تعبيد الطريق أمام إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في كلا البلدين مما يعزز التواجد و الهيمنة العسكرية الأمريكية على المنطقة . ليس غريبا إذا أن ينكر موظفو إدارة كارتر وقتها بأنهم أعطوا الضوء الأخضر للعراق ليغزو إيران في 22 سبتمبر 1980 . لكن هناك إشارات قوية تؤكد انهم فعلوا ذلك . ففي 14 أبريل 1980 أي خمسة اشهر قبل الغزو العراقي صرح زبيني بريزننسكي مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر عن نية الإدارة الأمريكية للعمل مع العراق حيث قال : " هناك توافق كبير بيننا و بين المصالح العراقية و لهذا فنحن لا نشعر بأنّ العلاقات العراقية الأمريكية من الضّروري أن تجمّد في الخصومات ." إضافة إلى هذا كشف طلبة إيرانيون عن سر المذكرة التي بعث بها بريزننسكي لوزير الخارجية سيريس فانس و يحثه فيها على دعم الإطاحة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال جيرانها . و حسب تصريحات الرئيس الإيراني وقتها أبو الحسن هاني بدر فان بريزننسكي التقى بصدام حسين في الأردن شهرين قبل الغزو . يقول بني سدر :" لقد طمأن بريزننسكي صدام حسين بأن الولاياتالمتحدة سوف لن تعترض على فصل خازوستان في جنوب غرب إيران لضمها للأراضي العراقية . و جاء أيضا في تقرير للصحفي روبرت باري في صحيفة أخبار كونسورتيم يناير 96 أن وزير الخارجية أليكساندر هايج قال في وثيقة له تلخص مجمل ما قام به خلال رحلته الشرق أوسطية سنة 1981 أن الرئيس كارتر أعطى الضوء الأخضر لإعلان الحرب على إيران من خلال الوسيط السعودي الأمير فهد الذي لم يتوج بعد ملكا على السعودية . و كانت الصحيفة اللندنية الفاينانشل تايمز قد نشرت وقتها خبرا مفاده أن الولاياتالمتحدة سربت عبر وسطاء من العالم الثالث معلومات حصّلتها من خلال أقمار للتجسس إلى نظام صدام بقصد إفهامه أن القوات الإيرانية سوف تنهار بمجرد أن يشن هجوما مباغتا عليها و هو الشيء الذي لم يحصل . إذا ففي الوقت الذي يتحدث فيه الإعلام الأمريكي عن الطاغية صدام فانه يتغاضى عن دور بلاده في دفع العراق لحرب دموية طويلة . كان يجب على النيويورك تايمز أن تتعمق قليلا و تبحث في مسألة الدعم الأمريكي بالسلاح للعراق و إيران في نفس الوقت . حيث أن الولاياتالمتحدة حاولت السيطرة على الطرفين معا لتضمن عدم انتصار أحدهما على الآخر . و جاء في كتاب " الحرب الطويلة " لمؤلفه ديليب هيرو صفحة 121 أن أحد الضباط الأمريكيين صرح سنة 1983 قائلا : " نحن لا نسعى لحسم الصراع لأحد على حساب الآخر مادام التناحر العراقي الإيراني لا يؤثر على حلفائنا أو يخل بميزان القوى " . و بحلول سنة 1982 انتقلت المبادرة إلى الجانب الإيراني و بات يهدد بشكل خطير البصرة و هي ثاني اكبر مدينة عراقية . و طبقا لشهادة هوارد تيكر عضو مجلس الأمن القومي في إدارة ريغن التي أدلى بها سنة 1995 و التي طلبت المحكمة الأمريكية التحفظ عليها لأسباب تتعلق بالأمن القومي , يقول هوارد في هذه الشهادة : " في ربيع 1982 تهاوت القوة العراقية و أوشكت على خسارة الحرب أمام إيران إلا انه و في يونيو من نفس السنة قرر الرئيس ريغن بأن الولاياتالمتحدة ستفعل كل ما في وسعها لتمنع هزيمة العراق أمام إيران ". و يؤكد تيكر أنه و بعد إصدار قرار ريغن السري المتعلق بالأمن القومي في يونيو 1982 كثفت الولاياتالمتحدة من مساعداتها للعراق و التي شملت بلايين الدولارات كديون و معلومات و استشارات استخباراتية عسكرية و أيضا إيصال شحنات كبيرة من السلاح المطلوب للعراق عن طريق بعض دول العالم الثالث . و تستمر شهادة تيكر حيث يقول أن الولاياتالمتحدة فضلت إرسال قنابل عنقودية مضادة للأفراد استجابة لنصيحة من مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام كيسي الذي أكد أن القنابل العنقودية سوف تضاعف من القوة العراقية . و تكفلت وكالة الاستخبارات بكل الأعمال اللازمة لتسهيل إيصال شحنة القنابل و الأسلحة الأخرى إلى العراق . و على مدى ثمانية سنوات منحت الولاياتالمتحدة العراق 5 بلايين دولار عبارة عن مساعدات اقتصادية و شجعت حلفائها على إمداده بأسلحة بلغت قيمتها بلايين الدولارات . فقد باعت بريطانيا للعراق دبابات و صواريخ و بطاريات إطلاق صواريخ مختلفة و الفرنسيون أمدوه بصواريخ هويتزرس و إيكزوسيت و طائرات الميراج النفاثة و ألمانياالغربية بتكنولوجيا استخدمها على بعض النباتات التي استخرج منها فيما بعد غاز الأعصاب و الخردل . و يقول الكاتب ويليام بلام أن الولاياتالمتحدة زودت العراق بأسلحة بيولوجية . فقد جاء في تقرير للجنة مجلس الشيوخ سنة 1994 انه من سنة 1985 و حتى سنة 1989 تم تصدير معدات بيولوجية بشكل سري للعراق عبر مؤسسات أمريكية خاصة حصلت على ترخيص من وزارة التجارة. و قد تضمنت الشحنة الجمرة الخبيثة و مادة البوتيلزم السامة و بكتيريا الإي كولي . و يضيف بلام أن التقرير أكد أن هذه الكائنات الحيّة المجهرية التي صدّرت إلى العراق هي نفسها تقريبا التي اكتشفها مفتشو الأممالمتحدة في إطار برنامج نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية . و قد اعتمدت الولاياتالمتحدة طوال الحرب العراقية الإيرانية على سياسة الميل لجانب مرة و للجانب الآخر مرة أخرى و ذلك حسب أجندتها الخاصة و التي تضمنت إعادة السيطرة على إيران . و قد جاء في مذكرة بعثت لوليام كيسي مدير وكالة الاستخبارات المركزية سنة 1985 أن انحياز الولاياتالمتحدة للجانب العراقي جاء نتيجة لخطر الثورة الإسلامية و هي في أوجها , أما الآن فحان وقت العراق . و من المعروف أن الولاياتالمتحدة شجعت إسرائيل سرا على تزويد إيران بالسلاح منذ بداية الثمانينات و تطور الأمر تدريجيا ليصبح بشكل مباشر سنة 1985 في ما عرف بأزمة السلاح المصدر لإيران و التي سميت ب" IranGate " . إضافة إلى هذا فانه و في سبتمبر من سنة 1986 وعد اوليفر أحد مساعدي ريغن الإيرانيين بأن تشجع الولاياتالمتحدة بعض الدول العربية للمساعدة في الإطاحة بنظام صدام حسين . و في الوقت الذي كانت تجري فيه هذه النقاشات السرية أحرزت إيران انتصارا كبيرا بسيطرتها على شبه جزيرة فاو في فبراير 1986 . لكن العراقيين و حسب صحيفة النيويورك تايمز في عددها الصادر بتاريخ 19 من يناير 1987 أكدوا أن الولاياتالمتحدة زودتهم بمعلومات خاطئة عن التحركات الإيرانية . ففي الوقت الذي كان فيه المسئولون العراقيون يتابعون التحركات الإيرانية للسيطرة على الجزيرة كانت الولاياتالمتحدة تطمئنهم بأن ذلك ليس له علاقة بهجوم وشيك على شبه جزيرة فاو . و حسب نفس الصحيفة فان الاستخبارات المركزية دأبت على تزويد كلا الطرفين بمعلومات خاطئة طوال سنين الحرب حتى تضمن عدم انتصار طرف على الآخر . و في كتابه " الحروب السرية لوكالة الاستخبارات المركزية 1981-1987 " يصف ودورد سياسة التعامل المزدوج التي كانت تنتهجها الولاياتالمتحدة بأنها كانت تعتمد على تزويد طرفي النزاع ببيانات تكتيكية جعلتها في موقع يسمح لها بهندسة مأزق الفريقين المتحاربين . و لكن النزاع لم يكن لعبة ممتعة بل حربا دموية أودت بحياة مليون شخص و آلاف من المصابين و الأسرى من الجانبين . فهذه كانت مجزرة بكل معنى الكلمة . و خوفا من أن يؤدي التعامل السري بين إيران و الولاياتالمتحدة إلى هزيمة للنظام العراقي تراجعت أمريكا إلى الوراء قليلا . و يعلق ودورد على هذه النقطة انه و في أواخر سنة 1986 التقى وليام كيسي بمسؤولين عراقيين كبار و شجعهم على شن هجمات متتالية على إيران و بشكل خاص ضد المراكز الاقتصادية . أما تيكر فيؤكد انه و في سنة 1986 أرسل ريغن رسالة سرية لصدام حسين أشار عليه فيها بضرورة مضاعفة الهجمات الجوية العراقية على إيران و هذا بالضبط ما حصل فيما عرف بحرب المدن حين كثفت العراق من ضرباتها الجوية على العديد من المواقع الاقتصادية و المدنية الإيرانية . و تضاعف الدعم الأمريكي للعراق حتى بعد أن ارتكب هذا الأخير مجزرة حلبشة التي هاجم فيها العراقيون بالأسلحة الكيماوية مناطق الأكراد في الشمال مما تسبب في مقتل اكثر من 5000 كردي . و حسب لوس أنجلوس تايمز فان الولاياتالمتحدة أمدت العراق بمروحيات استخدمت في شن الهجوم على أكراد العراق . و بعد كل هذا مازالت تجادل مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي بان الحرب على العراق هي قضية أخلاقية . يكفي أن يبحث الواحد منا في سجل الأدوار الخفية التي لعبتها أمريكا خلال الحرب العراقية الإيرانية ليكتشف مدى الخداع و التدليس و التورط الأمريكي المباشر في مجازر شنيعة حصلت وقتها و ليكتشف أيضا أن هذه هي السياسة الحقيقة التي تعتمدها رايس و بقية المسؤولين الأمريكيين . فهؤلاء الامبرياليون تسببوا في حصول كل تلك الويلات و المجازر التي أودت بحياة أكثر من مليون عراقي و إيراني . و حرب الولاياتالمتحدة المتوقعة على العراق اليوم لا تخرج عن هذا الإطار الإجرامي المدمر المدفوع بمصالح الإمبراطورية و حب السيطرة الكونية . ترجمة : حميد نعمان لاري ايفيرست مجلة زد نيوز