" ليست حربا سيشنونها اليوم فقط بل هي مجزرة و ستكون كارثة " هكذا وصف فانسن هوبن مدير برميير إرجنس و هي أكبر منظمة إغاثة أجنبية عاملة في العراق. و هذه الحرب ما هي إلا حملة شعواء يقودها بوش و أفراد عصابته لإعلان حرب جديدة على العراق . و لكنها ستكون المرحلة الأخيرة في حرب أمريكية مازالت مستمرة لأكثر من عقد من الزمن و هي حرب كما جاء في كتابي " العراق تحت الحصار " شملت كل المجالات العسكرية و الاقتصادية . حرب الخليج لسنة 91 لم تكن أبدا حربا بل مجزرة من جانب واحد ضد بلد لا يمكن مقارنته أبدا بقوة أمريكا العسكرية أو بقية حلفائها . فخلال المدة القصيرة لتلك الحرب و التي لم تتجاوز الشهر و نصف الشهر ألقى الجيش الأمريكي 88.500 طن من القنابل على العراق و الكويت و كانت تلك الهجمات الجوية أحد اكثر الهجمات قوة و تركيزا في التاريخ العسكري . و بالرغم من كل الأكاذيب التي قيلت عن " القنابل الذكية " فقد تأكد أن 70% من القنابل الأمريكية لم تصب أهدافها المعلنة . و جاء في الواشنطن بوست مؤخرا : " في واقع الأمر فقط 7% من القنابل الموجهة عن بعد أصابت أهدافها و هذا بخلاف توصيات البانتغون و الجيش الأمريكي خلال حرب الخليج الثانية " . و تسببت هذه الحرب في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين و 300 منهم قتلوا دفعة واحدة حين أصابت صواريخ كروز الأمريكية ملجأ العامرية في 13 فبراير 1991 . و العديد من المدنيين قتلوا أيضا بسبب هذه الصواريخ فيما آخرون حرقوا حتى الموت بعدما شبت النيران في أنابيب نفطية مجاورة لهم . و إلى اليوم مازال البنتاغون يدعي أن ملجأ العامرية كان هدفا عسكريا مشروعا . و هذه القنابل دمرت أيضا و بطريقة وحشية معظم البنية التحتية العراقية التي كانت توفر أساسا الكهرباء و الماء الصالح للشرب للمدنيين العراقيين و هذا الأمر لم يكن حادثا غير مقصود بل إستراتيجية أمريكية خالصة . و كان بارتن جلمان من الواشنطن بوست قد كتب بعد الحرب بأشهر يقول : " بعد الأدلة القاطعة التي أبرزت بوضوح مدى الدمار الهائل الذي تعرضت له البنية التحتية العراقية و آثارها الكارثية على المواطنين العاديين اعترف بعض مسئولو البنتاغون بالآثار الوخيمة التي سيخلفها 43 يوما من القصف الجوي على مستقبل الاقتصاد و المدنيين العراقيين " . و يستمر بارتن قائلا : " بالرغم من أن العديد من المعلومات تصنف في إطار السرية لكن و من خلال الحوار مع ضباط شاركوا في استهداف تلك المواقع العراقية تبين أن هناك اختلافات جوهرية تتناقض مع الصورة الأولية التي رسمتها الإدارة الأمريكية لحملة تستهدف فقط مواقع الجيش العراقي و خطوط إمداداتهم . فبعض المواقع التي استهدفت و خاصة في المراحل الأخيرة من الحرب كان الغرض الأساسي من ورائها خلق نوع من العجز العراقي المزمن و ليس هزيمة الجيش العراقي فقط . و الكثير من المخططين العسكريين يقولون أن الهدف كان تدمير البنية التحتية العراقية بأكملها حتى لا يستطيع العراق بنائها من جديد دون الحاجة للمساعدة الخارجية , و من أجل تحقيق هذه الأهداف دمرت كل مصالح المدنيين العراقيين و التي وصفتها الإدارة الأمريكية بأنها حوادث غير مقصودة و لكنها كانت مقصودة حقيقة " . و لا أحد يعلم اليوم بالتحديد كم عسكري عراقي قتل خلال المجزرة الشهيرة التي تعرضت لها القوات العراقية المستسلمة و المنسحبة من الكويت فيما سمي بطريق " الموت " . و هذه المجزرة تفخر بها أمريكا و تدعي أنها أصابتهم في مقتل حين دمرتهم بالكامل مع عرباتهم العسكرية في الوقت الذي كانوا ينسحبون فيه من الكويت و يتجهون إلى العراق . كتب أحد الجنود الأمريكيين القدامى الذين شاركوا في تلك الحرب يقول : " لقد شاهدنا بأم أعيننا نتائج التفوق الجوي الأمريكي الذي دمر المنطقة برمتها . رأينا دبابات و حاملات جنود مدمرة و جثث متفحمة و متناثرة في تلك الصحراء كما لو أن ذلك كان نتيجة سنوات من القصف و ليست أسابيع . و المخيف أن ذيول العديد من القنابل التي لم تنفجر مازالت موجودة في تلك المناطق و تهدد بتفجير المكان برمته بين الفينة و الأخرى " . و رغم هول الكارثة إلا أن الإعلام لم ينشر إلا صورا قليلة جدا لتلك المناظر المؤلمة فيما اختفت التقارير الصحافية بضغط أمريكي . و مؤسسات الإعلام هذه تجاهلت اكثر من مليون من قذائف اليورانيوم المنضب و التي استخدمتها الولاياتالأمريكية في العراق و الكويت . و رغم أن البنتاغون ادعى انه استخدمها لأنها ذات كفاءة عالية في تفجير الدبابات و المدرعات العسكرية إلا أن هذه الأسلحة تركت وراءها كارثة إشعاعية قاتلة . تقول صحيفة سياتل بوست : " اليوم و بعد 12 سنة مضت على استخدام تلك الأسلحة المحرمة مازالت ساحات المعركة منطقة موبوءة و مشعة . و يؤكد الأطباء و الخبراء العراقيون أن اليورانيوم المنضب هو المسئول المباشر عن ارتفاع حالات السرطان و تشوهات الولادة في المنطقة . و أكد هذا الأمر أيضا العديد من الباحثين خارج العراق و منهم منظمات أمريكية متخصصة شككت في أن لليورانيوم المنضب دورا ما في أعراض ما سمي بمرض الخليج الغامض الذي أصاب عشرات الآلاف من الجنود المشاركين في تلك الحرب " . ليس هناك من سبب يدعونا اليوم للاطمئنان بان هذه الحرب المتوقعة ضد العراق لن تتسبب في كوارث مثل التي سبقت . ففي ديسمبر 1998 و خلال الغارات الجوية الأمريكية على العراق ألقت القوات الجوية ملايين من المنشورات الدعائية و التي نشرت عليها صور " طريق الموت " و منظر آلاف الجثث العراقية المتناثرة في تلك الصحراء إبان الحرب السابقة و حذرتهم في تلك المنشورات قائلة " إذا هددتم الكويت سوف تبيدكم قوات التحالف مرة أخرى " . الحرب التي لن تنتهي أبدا رغم أن حرب الخليج الثانية تركت العراق مدمرا و ممزقا إلا أن هذا لم يمنع أمريكا من تشديد الحصار الاقتصادي الصارم الذي فرضته الأممالمتحدة على العراق بعد اجتياحه للكويت . و يعلق خبراء الأممالمتحدة على الحالة العراقية قائلين : " بعكس الحالة الاقتصادية التي كان عليها العراق إلى حدود يناير 1991 تسببت الأزمة الأخيرة في كارثة دمرت البنية الاقتصادية العراقية بشكل كامل , بحيث لم يعد لمظاهر الحياة العصرية وجود . و بسببها تحول العراق إلى مرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة ما قبل الثورة الصناعية لكن بكل مشاكل مرحلة ما بعد هذه الثورة و المتمثلة أساسا في الاعتماد الكامل على الاستخدام المفرط للطاقة و التكنولوجيا ". و الحقيقة هي أن هذه الحرب على العراق لم تنتهي أبدا . فبعد 12 سنة مازال البلد يعاني بشدة من هذا الحصار الكارثي . فطبقا لأرقام صندوق الأممالمتحدة للطفولة تضاعفت نسبة وفيات الأطفال العراقيين إلى خمسة أضعاف مما تسبب في وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي ما بين سنة 1990 و سنة 1998 . و توفي آخرون نتيجة أمراض يمكن علاجها بسهولة إلا أن نقص المعدات الطبية ضاعف من حدتها و حولها إلى أمراض قاتلة . ففي ظل هذه العقوبات المفروضة على العراق اعتبرت المخصبات و اللقاحات و سيارات الإسعاف و السلع المدنية الحيوية الأخرى أدوات ذات استخدام عسكري مزدوج . و رغم كل هذا استمرت الغارات الجوية الأمريكية و البريطانية في قصف العراق من قواعد في تركيا أو الكويت بشكل منتظم و هي حرب اختارت وسائل الإعلام أن تتجاهلها . و لابد لنا من أن نشير إلى انه ليس هناك قرار أممي سمح بما سمي بمناطق الحظر الجوي في العراق و هذا خلاف ما تدعيه أمريكا من أنها تطبق قرارات الأممالمتحدة . و حتى اليوم مازالت الولاياتالمتحدة تدعي أن معاناة العراقيين هي فقط بسبب صدام حسين و ليست بسبب القصف المستمر و العقوبات و هذه مغالطة كبيرة . يقول تون مويات و هو مدير برنامج الأممالمتحدة للنفط مقابل الغذاء لصحيفة نيويورك تايمز : " أصبح الشعب فقيرا إلى درجة أنه و في حالات كثيرة يمتنع الناس عن أكل الطعام المقدم لهم مجانا لأنهم يعتقدون أن هذا الطعام هو كل ما يملكون فيجب عليهم المحافظة عليه ". هذا الحصار تسبب في تضخم اقتصادي شل حركة العراق بشكل كامل و أثر بشكل كبير على مدخرات معظم العراقيين , و ارتفعت نسبة البطالة إلى مستويات لا يمكن تصديقها و انتشرت ظاهرة تسول الأطفال و بيعهم لشركات الدعارة حتى يطعموا عائلاتهم الفقيرة جدا . و نجد أيضا أن ربع العائد المالي العراقي من كمية النفط المسموح بيعها تحول تلقائيا لإصلاحات الحكومة الكويتية و للشركات المتعددة الجنسيات و لتمويل عمليات الأممالمتحدة في العراق . و لاستغلال القليل المتبقي يتوجب على العراق و بشكل روتيني كتابة طلب للأمم المتحدة و بشكل خاص للجنة العقوبات التي غالبا ما تستخدم فيها الولاياتالمتحدة حق الفيتو لإلغاء العديد من الطلبات العراقية . أكاذيب لتبرير الحرب الحكومة الأمريكية لا يمكن أبدا أن تقول أنها ذاهبة للحرب من أجل النفط أو مزيد من القوة و السلطة بل دائما تدعي أنها ستحارب من أجل " الديمقراطية " و تحرير البلدان و الدفاع عن حقوق الإنسان و مواجهة أنظمة القمع . و حين اجتاح العراق الكويت في 2 غشت 1990 كان ردة فعل واشنطن سريعة و قوية . و صرح وقتها جورج بوش الأب قائلا " إذا علمنا التاريخ شيئا فهو واجبنا لمقاومة الاعتداء أو سيدمرنا كلنا ", و أضافت رئيسة الوزراء البريطانية حليفة بوش الرئيسية مارغريت تاتشر قائلة " إذا تركنا العراق ينجح في مهمته فلن تشعر أي دولة صغيرة بالأمان بعد اليوم و سيعم قانون الغاب ". و لكن ردة الفعل هذه من بوش و تاتشر لم تكن هي نفسها قبل الثاني من غشت 1990 حين دعما و ساعدا صدام حسين في الوقت الذي كان يعتبر حليفهما الوفي و المخلص و الذي يخدم مصالحهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط الغني بالنفط . فخلال الحرب العراقية الإيرانية و طوال عقد الثمانينات كان الدعم الأمريكي للعراق على أشده في حرب كلفت اكثر من مليون ضحية . و ازداد هذا الدعم من واشنطن حتى بعد أن ثبت استخدام العراق للغازات السامة سواء ضد الإيرانيين أو الأكراد مما تسبب في مقتل الآلاف . و يذكر انه قبل اجتياح الكويت بأسبوع اجتمعت سفيرة الولاياتالمتحدة أبريل غلاسبي في العراق بصدام حسين يوم 25 يوليوز 1990 و قالت له حسب ما نشر في الواشنطن بوست : " إن الرئيس بوش يريد تقوية العلاقات اكثر بين العراق و الولاياتالمتحدة و ليس لديه فكرة حول النزاع بينكم و بين الكويت ". سواء أكان هذا فخا أم لا فإن الرئيس العراقي أحس بأن الولاياتالمتحدة قد تغض الطرف عن هجوم عراقي متوقع على الكويت . و الغريب انه و في نفس تلك اللحظات كانت الولاياتالمتحدة تجتاح باناما و تعتقل مانويل نورييغا حليفها القديم و تقتل الآلاف من الباناميين و لكن من دون أن نسمع صرخات استغاثة أو ما قيل عن قانون الغاب و مواجهة الاعتداء . و لم تكن ردة الفعل الأمريكية على الاجتياح العراقي للكويت إلا نفاقا أمريكيا ادعى حماية الحدود الكويتية التي حددتها الإمبريالية البريطانية في العشرينيات بشكل عبثي سمح فقط بضمان سيطرة بريطانية على المنطقة النفطية هناك . و الكويت صراحة ما هي إلا منطقة إقطاعية سيطرت عليها نخبة صغيرة جدا تحالفت مع الغرب و يدعوها بوش بالدولة " الصديقة " . و نذكر أيضا انه و في ظل السعي المحموم لإدارة بوش وقتها لإعلان الحرب على العراق ادعى البانتغون أن العراق حشد قوات ضخمة بمئات الألوف على الحدود مع السعودية لكن حين جهزت صحيفة سان بترسبورغ في فلوريدا أقمارا تجارية لتصوير تلك الحشود لم تجد شيئا . يقول جون هيلر الصحفي الذي دحض ذلك الادعاء :" اتضح جليا لدينا أن قصة الحشود العراقية على الحدود السعودية كانت أكذوبة كبرى من الولاياتالمتحدة لتبرير الحرب ". و تزامن ذلك أيضا مع جلب الولاياتالمتحدة لطفلة كويتية كان تبلغ من العمر 15 سنة و تسمى نايرة لتشهد أمام البانتغون على المشاهد المفزعة التي شاهدتها كما أرادت ذلك الولاياتالمتحدة حين اختطفت القوات العراقية الحاضنات من المستشفيات و تركت 312 طفلا على أرضية باردة مما أدى إلى موتهم . و حين صوت مجلس الشيوخ بالموافقة على قرار بوش الأب بالحرب ادعى سبعة منهم انهم صوتوا لأنهم تأثروا بقصة الطفلة الكويتية . و لكن القصة برمتها كانت مفبركة , فشهادة الطفلة نايرة كانت جزءا من حملة دعائية كويتية خصصت لها ميزانية بلغت 10 مليون دولار و أدارتها شركتا FIRM HILL و KNOWLTON . و الطفلة نفسها لم تكن نزيلة ذلك المستشفى كما ادعت بل كانت ابنة السفير الكويتي لدى واشنطن وقتها . و ردا على هذه الفضيحة يقول مستشار بوش للأمن القومي وقتها برنت سكوكروفت " كنا نعلم بأن القصة لم تكن حقيقية و لكنها كانت مفيدة لتعبئة الرأي العام من أجل تلك الحرب ". ترجمة : حميد نعمان أنتوني أرنوف مجلة سوشليست وركر