ظن الكثيرون أن المظاهرات العارمة التي شهدتها الولاياتالمتحدة و التي سبقت الحرب على العراق سوف تؤثر على القرار السياسي لإدارة البيت الأبيض , و زادت قناعة هؤلاء بهذا الأمر حين أشارت وقتها استطلاعات الرأي إلى أن نسبة قليلة من الأمريكيين تعارض الحرب حتى بقرار دولي و أن نسبة كبيرة تعارضها فقط إذا لم تحصل الإدارة الأمريكية على قرار دولي يخول لها شن الحرب على العراق بمباركة أممية . و لم يتوقف الأمر على الولاياتالمتحدة بل تعداه ليشمل المملكة المتحدة و خصوصا داخل حزب العمال الحاكم , فنحن مازلنا نذكر التصريحات النارية من قيادات الحزب بسحب الثقة من توني بلير إذا ما دعم واشنطن في حرب من جانب واحد و من دون شرعية دولية . و لكن ما الذي حصل بعد ذلك ؟؟ فجأة و بسبب الموقف الفرنسي الصلب باستخدام حق الفيتو للحيلولة دون إصدار قرار أممي جديد و أيضا بسبب فشلهم حتى في الحصول على أغلبية تسعة أصوات داخل مجلس الأمن اتخذ ت الولاياتالمتحدة قرار شن الحرب من دون الرجوع إلى مجلس الأمن . و بسبب هذا الإعلان الحربي الأمريكي كنا ننتظر ثورة داخل المجتمع الأمريكي و داخل حزب العمال البريطاني لأن إدارة بوش شنت الحرب من دون قرار دولي , و لكن شيئا من هذا القبيل لم يحصل بل حصل العكس , حيث اتفقت جميع فئات الشعب الأمريكي تقريبا و حسب ما نشر في الصحف الأمريكية من استطلاعات للرأي على دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها على العراق و نفس الشيء قام به معظم أعضاء حزب العمال البريطاني باستثناء الثلاثة الذين قدموا استقالتهم و منهم النائب روبن كوك. فحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة النيويورك تايمز بالتعاون مع قناة " سي بي إس " الأمريكية هناك نحو 70% من الأمريكيين يؤيدون بوش في ما يسمونها الحرب العادلة على " النظام العراقي " و حوالي 13% يعارضون و البقية لم يحددوا موقفهم . هذا التناقض الصارخ داخل هذه المجتمعات يطرح العديد من التساؤلات . فما فائدة تلك المظاهرات و ما فائدة تلك الوعود و ما فائدة تلك التهديدات بالتمرد و العصيان و سحب الثقة إذا كان هؤلاء سوف يباركون في النهاية هذه الحرب الظالمة على الشعب العراقي ؟ و حجتهم الوحيدة أن جنودهم في حالة حرب و يجب أن يساندوهم لا أن يخذلوهم في هذه الأوقات العصيبة . نعم يساندوهم في قتل مزيد من الأبرياء و في نحر الآلاف من الأطفال و في تدمير مزيد من المنشآت العراقية المدمرة أصلا!! ربما فهم طبيعة المجتمع الأمريكي تمكننا من فهم ردة فعله هذه المتناقضة مع نفسها . فهذا شعب يعتقد أن العالم ينتهي عند حدود الولاياتالمتحدة و يصدق تقريبا كل ما ينشر في الصحف و يذاع في القنوات الإعلامية الأمريكية و هو بشكل عام يقبع تحت سيطرة تامة من قبل مؤسسات حكومية و غير حكومية تدعمها الإدارة الأمريكية باستمرار في محاولة لتوجيه هذا الرأي لصالح السياسة الخارجية الأمريكية . و هذه المؤسسات تنشط باستمرار و خاصة في أوقات الحروب حتى تجند الرأي العام لصالح الموقف الرسمي و حتى تضمن عدم حدوث قلاقل أو بلبلة قد تؤثر نفسيا على الجنود في جبهة القتالو قد تؤثر سلبا على الدعم المادي الذي يجب ان يوافق عليه الكونغرس . و هذا تقليد اعتمدته الإدارات الأمريكية السابقة في كل الحروب التي خاضتها . هناك لا شك فئة داخل المجتمع الأمريكي ظلت مناصرة للقضايا الحقوقية العالمية و ظلت تندد بهذه الحرب الظالمة و العدوانية و لكن هذه الفئة قليلة جدا و ليست مؤثرة و الإدارة الأمريكية لا تلقي لها بالا مادامت الأغلبية الساحقة تحت سيطرتها و توجهها كيفما شاءت . و لعل أهم سلاح تعتمد عليه إدارة الحرب الأمريكية هو سلاح الإعلام . فقد جيشت كل فئات شعبها و مؤسساته المدنية بكافة أطيافها و خاصة المؤسسات الإعلامية و سطرت لهم الشروط التي يجب أن يلتزموا بها طوال فترة الحرب . و المتتبع للتغطية الإعلامية الأمريكية يلاحظ هذا الأمر بجلاء . فمنذ بداية الحرب العدوانية على العراق و قنوات سي إن إن و فوكس نيوز و غيرها لا هم لها إلا أخبار الجنود الأمريكيين و تقدمهم المستمر إلى بغداد , و الاعتراف بالنذر القليل من الخسائر أو إرجاعها إلى أعطال فنية أو ما يسمى " بالنيران الصديقة " و تضخيم صورة عشرات المواطنين العراقيين في أم قصر أو منطقة الزبير أو ضواحي البصرة على أنهم هاربون من جحيم صدام إلى نعيم الأمريكان . و في كل مرة تطلع علينا قناة سي إن إن بتصوير مشهد لبعض العراقيين و هم يتسابقون للحصول على بعض الحلوى و البسكويت الامريكي , و حوار ملفق لجندي عراقي هرب و يحكي عن فظاعة النظام العراقي , و محاولة تقديم صورة إنسانية و طيبة لعمل الجنود الأمريكيين و البريطانيين هناك و ما إلى ذلك من التضليل الإعلامي المقصود به أولا تضليل الشعب الأمريكي و دفعه لدعم هذه الحملة العسكرية بشكل أعمى . أما صور الدمار الهائل و الجرائم البشعة التي ارتكبت في بغداد و البصرة و الزبير و الموصل و غيرها فلن تجد قناة أمريكية تتحدث عنها . فمثلا و بعد كل جريمة ترتكب و خاصة جريمة قصف السوق الشعبي في منطقة الشعلة في بغداد اقتصرت الصور في قناة سي إن إن على مناظر لجانب من التدمير الذي لحق بالمنازل و تجاهلوا منظر الجثث المفحمة و المتناثرة هنا و هناك و الصور البشعة للقتلى و الجرحى و لكي يتجنبوا المسائلة رموا بالمسئولية على الجانب العراقي و ادعوا ان صاروخا عراقيا ظل طريقه و تسبب في تلك المجزرة و مثال بسيط على تقنيات التضليل و التلفيق الإعلامي التي يتبعها الإعلام الأمريكي للتغطية على جرائم الحرب التي يرتكبها جنوده . و بالطبع فالمواطن الأمريكي المدمن على قنواته الإعلامية و الذي يعاني من نقص ثقافي لا يسمح له بمتابعة القنوات الأجنبية يرى صورة وردية للحرب و يعتبرها حربا تحريرية و هذا بالطبع يقوي من موقف الإدارة الأمريكية و يزيد من تصميمها على المضي قدما في هذه الحرب الظالمة . لقد قال مرة المفكر الأمريكي الشهير نوام تشومسكي أن الشعب الأمريكي شعب متخلف , فهو شعب تزيد أسهم رئيسه عنده كلما دخل عددا اكبر من الحروب و كلما قتل عددا أكبر من الأبرياء في العالم . و هذا بالضبط ما يحصل اليوم داخل المجتمع الأمريكي . فباستثناء بعض المظاهرات المعادية للحرب تبقى الأغلبية و التي قالت الصحف أنها وصلت إلى 70 % تؤيد الحرب و تساند بوش . و لعل أبلغ تعبير على إحساس بعض الأمريكيين بتحول قنواتهم الإعلامية إلى مجرد كاميرات توجهها إدارة الحرب في البيت الأبيض أينما شاءت هي المظاهرة التي نظمها مجموعة من المثقفين في نيويورك و بعض الولايات الأخرى مؤخرا . فقد هاجم المخرج الأمريكي مايكل مور القنوات الأمريكية قائلا :" لم ترافق أجهزتنا الإعلامية الجيش الأمريكي لنقل صورة الحرب كما هي بل لنقل صورة الحرب كما يراها البيت الأبيض و ليس كما تجري حقيقة على الأرض ". ربما يعول البعض على تضاؤل هذا التأييد إذا ما طال أمد الحرب و ارتفع عدد القتلى في صفوف الأمريكيين و البريطانيين و هذا متوقع . فطول الحرب معناه زيادة في الأعباء على الاقتصاد الأمريكي المنهك أصلا منذ حادثة 11 سبتمبر و هذا بدوره سيؤثر على الوضع المعيشي للمواطن الأمريكي العادي . هذا إضافة إلى عدد القتلى الذي قد يتضاعف باستمرار فتتحول الحرب التي خطط لها صقور البيت الأبيض على أنها نزهة في صحراء العراق إلى فيتنام ثانية . و لربما الأخبار الأخيرة لانتصارات المقاومة العراقية العسكرية منها و المدنية و تكبيدها العدو خسائر كبيرة في مناطق متعددة من العراق و صور الأسرى و جثث الجنود الأمريكيين و البريطانيين قد يدفع مؤيدي بوش سواء من السياسيين أو من المواطنين العاديين إلى طرح السؤال الصعب الذي سبق و طرح خلال حرب فيتنام; من أجل من و من أجل ماذا يفقد أبناؤنا أرواحهم في هذه الحرب ؟؟ حميد نعمان