(1) هناك دلالات خطيرة للضجة التي ثارت حول مقتل الناشطة المصرية شيماء الصباغ، رحمها الله، عشية الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، تحديداً لأن مثل هذه الضجة لم تثر في حق أي من الأربعة والعشرين الآخرين الذين قتلوا في نفس اليوم، ولا المئات الذين ظلوا يقتلون منذ الانقلاب المشؤوم في يوليو من عام 2013. فهذه الصحوة المفاجئة على أن هناك بشرا يقتلون في بر مصر تضع تحت ضوء كاشف ذلك التناوم الطويل عن إزهاق الأرواح، وتطرح سؤالاً محورياً حول سر هذه «الصحوة» المفاجئة. (2) لماذا يخرج فجأة وزير الداخلية بنفسه لينفي وينكر، ثم يتوعد «المخطئين» (غير الموجودين طبعاً) بعذاب أليم؟ ولماذا يخرج مذيعو المقاولة عن نهجهم التبريري ليطالبوا بالتحقيق وتحمل المسؤولية؟ من أين كل هذا الهلع وسط شبيحة انقلاب السيسي، وتسابقهم في التنصل من مقتل شيماء، وكانوا من قبل يتسابقون في التباهي بالقتل والتنكيل؟ (3) من يتابع هذا المشهد المأساوي الكوميدي يكون معذوراً في اعتقاده أن شيماء أول إنسان وأول مصري يقتل في مصر منذ انقلاب السيسي. وهذا هو بالفعل معتقد النخبة المصرية المهيمنة، والدولة الاستبدادية التي ظلت تحكم مصر منذ أيام الملك فاروق. فهناك خيار وفقوس، «أبناء الذوات» والآخرون، مصريون هم من البشر، وآخرون سوائم تعد للخدمة والذبح وزيادة العدد. لا بأس إذن أن يقتل الآخرون بالجملة، وأن يحتدم الجدال حول أعدادهم (هل هم أربعة آلاف أم ألف ونصف)، دون أن تكون لذلك أهمية. أما أن تمس شعرة من رأس أبناء الذوات، فإن القيامة تقوم. (4) يذكرنا هذا المقام بالعنصرية الأوروبية وتجلياتها الاستعمارية في منطقتنا كما في فضيحة دنشواي التي تتكرر كل صباح في محاكم مصر السيسي. فكبيرة «تلطيخ الأيدي بالدم اليهودي» (أو قتل أمريكي أو فرنسي) جريمة لا تغتفر. أما السباحة في دم الآخرين فهي رياضة الشرفاء والمحسنين. ولا يهم عدد وهوية من يقتلون بالصواريخ من بعد أو الطائرات المسيرة. المهم إرسال الرسالة عن من هو السيد المطاع. (5) للأسف يستوي في هذه العنصرية ممثلو البرجوازية المصرية وأدعياء التطهر اليساري. فقد تحسر كل من الملياردير نجيب ساويرس و»المفكر اليساري» جلال أمين (الثاني في كتاب كامل) على أيام زمان في مصر الارستقراطية، حين كان الفضاء العام محتكراً لأبناء الذوات، وكان الخدم والفلاحون يعرفون أماكنهم. أما الآن، يتفق الرجلان، فقد أصبح الفضاء «ملوثاً» بالنساء المحجبات وغيرهن من الهمج، حتى أصبح المرء يشعر أنه في إيران وهو يمشي في شوارع الإسكندرية (بحسب الأول) أو يشعر بغربة كاملة في وطنه (حسب الثاني). (6) يقال إن العصر الناصري قلب هذه المعادلة، وفتح الأبواب لأبناء الفقراء. المفارقة بالطبع أن عبدالناصر، ابن موظف البريد، ما كان ليدخل الكلية الحربية لولا قرار صدر في منتصف الثلاثينات بتخفيف القيود لدخولها، وهو قرار ألغي عملياً للأسف في عهد مبارك وتأكد ذلك في عهد السيسي. إلا أن عبدالناصر غير فقط خطوط الإقصاء، فأصبح التدين هو خط الإقصاء لا الطبقية. ولكن النتيجة واحدة، لأن أبناء الفقراء هم المتدينون في الغالب. (7) وقد تجلت ملامح هذا الفصل العنصري القديم المتجدد في تعامل النظام الناصري مع حادثة موت الناشط الشيوعي شهدي عطية تحت التعذيب في منتصف عام 1960، وهو نسخة طبق الأصل من جزع نظام السيسي اليوم تجاه مقتل شيماء. فيقال إن عبدالناصر أمر فوراً بوقف التعذيب في السجون (تحديداً لأنه أحرج وهو يحضر مؤتمراً في يوغسلافيا بإدانات صاخبة للجريمة) وطالب بالتحقيق في الأمر. وانبرى وقته «مفكرو» النظام لأول مرة لإدانة التجاوزات والإنكار عليها، رغم أنهم يعلمون وكبيرهم الذي علمهم السحر أن التعذيب لم يبدأ بشهدي ولم ينته به. ولم ينبس أي من هؤلاء وقتها ولا بعد ذلك ببنت شفة استنكاراً لقهر وتعذيب وتقتيل الآخرين، بل إن من يدعون أنهم ورثة شهدي عطية كانوا ولا يزالون من أكبر كهنة معابد الاستبداد المباركي ثم السيسوي. (8) هذا هو لب المسألة في مصر. فليس الخلاف القائم هو بين إسلاميين وعلمانيين، أو بين محافظين وليبراليين، وإنما هي بين غالبية شعب مصر المتجذر في ترابها، والنخبة الغريبة والمستغربة التي فصلت نفسها عن هذا الشعب، وتقوم عليه وصية وراثة لكرومر وخلفائه، ومحمد علي وورثته. هذه النخب اختطفت الدولة وتحصنت بها، واحتكرت الثروة واتخذتها سلاحاً ضد الشعب. هذه النخب تريد أن يعرف الشعب «مكانه»، وأن يكون مثل العمالة «الوافدة»، يؤدي دوره ويقبض الفتات، ويلتزم الصمت، وإلا... (9) لهذه القضية حلان لا ثالث لهما: إما اتباع نهج جنوب افريقيا في صفقة تحفظ للطبقة المتحكمة بعض امتيازاتها مقابل تسليم السلطة للشعب، وإما انتظار مصير ماري انطوانيت وشيعتها.