ترسخت عند عامة المسلمين صورة قبيحة لليهودي، وهي صورة المكر والخداع والتآمر وحب المال، والتحالف مع الأقوياء. وانضاف إليها في زماننا الغطرسة والاحتلال وسفك الدم الفلسطيني على الخصوص، والإفساد العالمي بكل وسيلة ممكنة. وهذه صورة صحيحة في عموعها، خاصة عن الصهاينة المتطرفين منهم، وهم الأكثرية الساحقة، ومنهم تخرج الزعماء والأحبار الذين يسوقون الشعب اليهودي كما يسوق كثير من زعماء العرب ورؤسائه اليوم شعوبهم. والصورة الذهنية التي يحملها المسملون عن اليهود تكونت من ميراث إسلامي وواقع تاريخي مسترسل. أما الميراث الإسلامي، وفيه كتاب وسنة وقائع وحروب ومواجهات ومعاملات، "فلم يحمل أي فكرة لليهود منذ البدء كعنصر ولليهودية كدين"، ولكن "مواقف الكيد والدس والجحود والتآمر التي اتخذوها، كانت لأسباب لا تمت إلى الحق والإنصاف بصلة، بل إلى هوى الأحباروالحاخامات والزعماء وأغراضهم، وتأثرهم بالمؤثرات الدنيوية والمزاج النفسي، وتأثيرهم في العامة، وسوقهم وراءهم في الطريق التي ساروا فيها كما كان شأن أكثر أهل مكة زعماء وعامة". لكن القرآن الكريم يحدثنا عن فئة أخرى من اليهود لم تندفع ولم تتورط في العداء والكيد، وخاصة فريق من العلماء الذين استطاعوا أن يفلتوا من المؤثرات المتنوعة العنصرية والاقتصادية والنفسية والأنانية التي خضع لها اليهود، فلم يسعهم إلا أن يروا أعلام النبوة واضحة جلية، فصدقوا وآمنوا بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبالإسلام دينا. وهذه الفئة هي المقصودة بقول الله تعالى في سورة النساء: (لكن الراسخون في العلم منهم والمومنون يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، والمقيمين الصلاة والموتون الزكاة والمومنون بالله واليوم الآخر أولئك سنوتيهم أجرا عظيما). وتذكر السيرة النبوية في فصولها الرائعة إسلام العالم اليهودي الكبير في علمه وبين قومه عبد الله بن سلام الذي سارع إلى الدخول في الدين الجديد واتباع الدين الخاتم في السنة الأولى للهجرة، بل في أيامها الأولى. يقول هو بنفسه فيما رواه ابن ماجة (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وقبل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت لأنظر إليه، فلما استنبت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). ويروي البخاري عن طريق عبد العزيز عن أنس قال (فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جار عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم واسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني أسلمت قالوا في ما ليس في. فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم >يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون إني رسول الله حقا، وإني جئتكم فأسلموا< قالوا: ما نعلمه، قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار، قال >فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام، قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا حاش لله، ما كان ليسلم، قال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج فقال: يا معشر يهود، اتقوا الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق، فقالوا: كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم). في أيامنا هذه تتابعت أخبار عن إسلام بعض اليهود في الكيان الصهيوني وفي بلدانهم الأصلية، وهم ليسوا من العامة، بل من العلماء والأحبار، ومن آخرهم إسلام الحاخام الأكبر في الجمهورية الإسلامية الروسية داغستان، وأثار اعتناقه للإسلام أزمة في صفوف اليهود، ليس لأنه ثاني حاخام يشهر إسلامه في البلاد فقط، بل لأنهم وجدوا أنفسهم فجأة يهودا بدون حاخام، وذكرت صحيفة معاريف "الإسرائيلية" يوم الخميس الخامس من شتنبر أن الحاخام قال في حوار معه >إن سيدة مسلمة ذهبت له ذات يوم وطلبت منه النظر إلى التوراة والقرآن الكريم، فدعته قراءة القرآن لاعتناق الإسلام، ومنذ ذلك الحين وهو يقيم في أكبر مساجد داغستان. يعلمنا القرآن الكريم أن نكون منصفين، وأن نتجنب التعميم ما أمكن، فليس اليهود كلهم أشرارا وظالمين، بل فيهم الأخيار المعتدلون، ولابد أن نسجل الحسنة لأصحابها، فلليهودي وجه جميل جدا، عندما يكون منصفا لغيره، ووجه أجمل وأروع عندما يدخل في الإسلام محسنا مسلما وجهه لله. حسن السرات