إذا كان الفقه الإسلامي وعلى وجه الخصوص فقه مراتب الأعمال يعلمنا وينبهنا إلى أن أعمال الناس من الطاعات ليست على درجة واحدة من الأجر والثواب، وأن المعاصي ليست على درجة واحدة من الإثم والعقاب، وأن المؤمنين ليسوا على مرتبة واحدة في القرب من الله تعالى، (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ? لِّنَفْسِهِ? وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ? وَمِنْهُمْ سَابِقٌ? بِ?لْخَيْرَ?تِ بِإِذْنِ ?للَّهِ) سورة فاطر، وإذا كان خشوع الناس في الصلاة ليس على مرتبة واحدة، وإنما يتفاوتون، مثلما نبه ابن القيم حين بين، رحمه الله، أنهم يتدرجون في خمس مراتب: من الظالم لنفسه المفرط في أوقاتها وأركانها، إلى المحافظ على الأركان المضيع للخشوع فيها، إلى المجاهد نفسه في دفع الوساوس، إلى المقيم لها المستغرق قلبه في مراعاة حدودها، إلى الواضع قلبه بين يدي ربه المراقب له كأنه يراه، فإن الناس في العمل السياسي كذلك على مراتب متفاوتة، و يمكن تصنيفهم إلى خمس درجات: 1- درجة المفرط: وهو الذي ضيع الأمانة وفرط في المسؤولية ، وما أن وصل إليها حتى انقلب على عقبه، وتنكر لوعوده والتزاماته، وتهافت على المكاسب والامتيازات المشروعة وغير المشروعة، واعتبرها فرصة لجمع الثروة ونيل الحظوة، على حساب المبادئ والقيم والأخلاق. 2- درجة المتهاون: وهو الذي يحافظ على القيام ببعض واجباته ويضيع الكثير من مسؤولياته، ويركز على المهام التي تجلب المكاسب السياسية أو الامتيازات المادية، أما إذا اعترضته إكراهات أو إغرءات، أو ترهيب أو ترغيب، استسلم وسلم، وتراجعت مناعته واختفت مبادؤه وأخلاقه، ولم يبد أي مقاومة أو ممانعة. 3- درجة المقتحم: وهو الذي يجتهد في القيام بالواجب والوفاء بالالتزامات قدر المستطاع، ويجاهد نفسه أمام الإغراءات، ويتحدى الإكراهات والعقبات، وإذا ضعف مرة قاوم وتحدى مرات، فهو في جهاد واجتهاد مستمر واقتحام للعقبة. 4- درجة الرسالي: وهو الذي يعمل على القيام بكامل واجباته، بل يتجاوز منظور القيام بالمسؤوليات من باب الوفاء بالالتزامات والعهود فقط، إلى المنظور الرسالي، مهمته الإسهام في تخليق الحياة السياسية باستصحاب المبادئ والقيم والعمل على تثبيتها وترسيخها وتعميمها. 5- درجة المحسن: وهو الذي يتمثل المبادئ والقيم التي يؤمن بها غاية ما يكون التمثل، ويتفانى في القيام بواجباته على الوجه الأكمل ما أمكن، ويتحرى دائما الاتقان والإحسان، فهو في بحث مستمر عن الأحسن والأفضل والأجود، ويتجاوز التعفف عن ملاحقة المكاسب والامتيازات إلى الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء، فيجعل من عمله السياسي مجالا للتزكية والترقي في مراتب الإحسان. وفي الختام، تقديرا لحجم الإكراهات والتحديات والإغراءات التي تعتبر جزءا من طبيعة مجال الشأن العام ، وإبعادا لمنطق التنفير من السياسة والتحريض على الابتعاد عن أذاها وشبهاتها، يجب تشجيع الارتقاء في مراتب الإحسان في السياسة واعتماده مدخلا أساسيا لتخليقها وجعلها مجالا للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ويتم بذلك تثبيت منطق المشاركة الإيجابية ومخالطة الناس والصبر على الأذى، مصداقا لقول رسول الله (من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ( . بكلمة، يمكن للعمل السياسي أن يشكل مجالا للتزكية، وفرصة للترقي في مراتب الأعمال، بالابتعاد عن مرتبتي التفريط والتهاون، والترقي في مراتب الاقتحام والرسالية والإحسان.