يقول الله سبحانه وتعالى: "فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ اَوِ اِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ اَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَة ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ أَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [سورة البلد، الآيات: 10- 16]. ويقول سبحانه في سورة العصر: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [سورة العصر، الآيات: 1-2-3]. اشتملت سورتا البلد والعصر على مفهوم التواصي الذي جاء في السورة الأولى مضموما إلى الصبر والمرحمة، وفي الثانية إلى الصبر والحق. كما ورد مصطلح التواصي في موضع ثالث مقترنا بالألف للتوبيخ والنفي والتعجب وهو قوله سبحانه: "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ اَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" [سورة الذاريات، الآيات: 51-52]. والتواصي من الوصية، والمأخذ اللغوي للوصية من الأرض الواصية أي متصلة النبات، قال الراغب الأصفهاني: "الوصية [...] من قولهم أرض واصية متصلة النبات"[1] وقال ابن فارس: "الواو والصاد والحرف المعتلّ: أصلٌ يدلُّ على وَصلِ شيءٍ بشيء. ووَصَيْتُ الشَّيءَ: وصَلْتُه. ويقال: وطِئْنا أرضاً واصيةً، أي إنَّ نَبتَها متَّصلٌ قد امتلأَتْ منه." والوصية في اللغة: "التقدم إلي الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ"[2]، "وتواصى القوم إذا أوصى بعضهم بعضا"[3]. إذا رجعنا إلى سورتي البلد والعصر، فإننا نقف على جملة من المعطيات منها: - أن التواصي بالصبر وبالحق وبالمرحمة من صفات المؤمنين: "ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [سورة البلد، الآية: 16]، "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [سورة العصر، الآية:3]. - أن هذا التواصي هو من الأعمال التي تنجي صاحبها من الوعيد بالخسران، حسب سورة العصر، وتساعده على اقتحام العقبة، حسب سورة البلد. والعقبة فسرت بعدة معاني أبرزها الصراط وطريق النجاة، والظاهر أنها "مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة"[4]. • أن هذا التواصي يتكرر مرتين في كلا الموضعين: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"- "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ". • أن هذا التواصي يكون بعد صلاح القائم به في نفسه وقيامه بصالح الأعمال الذي ورد مجملا في سورة العصر ومفصلا ومفسرا بالإنفاق في سبيل الله في سورة البلد. • أن التواصي بالصبر جاء قبل التواصي بالمرحمة وبعد التواصي بالحق، حيث بدأ الله به في سورة البلد: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"، وأخره في سورة العصر: "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"، ومعلوم أن الصبر يشمل الصبر على الطاعات والصبر على المعاصي والصبر على الابتلاءات. هذه المعطيات تبين أن التواصي لا يتم إلا بالتعاون بين المؤمنين كم سبق، وكما تدل عليه صيغة الفعل؛ لأن ما يتم التواصي به من حق وصبر ومرحمة كلها من المعاني العظيمة التي يفتن الناس بعضهم بعضا عن التمسك بها نهجا لحياتهم، ولا يستقيم العبد عليها إلا إذا هيأ الله له من يعينه عليها ويذكره بها، وهذا بدوره لا يذكر بها ويعين غيره عليها إلا إذا أدرك قيمتها في النسق الإيماني الكلي من جهة، وأدرك صعوبة الاستقامة عليها من جهة ثانية. وهذا التعاون بين المؤمنين يتأسس، فضلا عما سبق، على مبدأ من أهم مبادئ ديننا الحنيف وهو حب الخير للآخر انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[5]، وأهمية التواصي بهذه المعاني العظيمة تفهم كذلك من تكرار لفظ التواصي، وقد يكون هذا التكرار ذا معنى آخر، خاصة في سورة العصر: ذلك أن التواصي بالحق هو التواصي بالتزام شرع الله الوارد في الكتاب والسنة، والتواصي بالصبر يكون بعده، فيكون بمعنى التواصي بالصبر على التمسك بهذا الحق والصبر عليه، قال الرازي عند تفسيره لسورة العصر: "ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه"[6]. ولهذا جاء الصبر هنا بعد الحق، بينما ذكرت المرحمة بعده في سورة البلد، وهي تناسب ما سبقها من حث على إطعام الفقير والمسكين رحمة بهم ورأفة لحالهم الذي بينته الآية الكريمة. ---------------------------- 1. المفردات. 2. نفسه. 3. لسان العرب. 4. زاد المسير. 5. متفق عليه واللفظ للبخاري. 6. مفاتيح الغيب. -المفردات.[1] -نفسه.[1] -لسان العرب.[1] -زاد المسير.[1] - متفق عليه واللفظ للبخاري.[1] -مفاتيح الغيب.[1]