حرارة الصيف وارتفعت معها حمى الانتخابات البرلمانية. وبينما تستعد الأحزاب لوضع لوائحها الانتخابية، يكثر الكلام حول النزاعات القائمة بين زملاء الأمس، وأصدقاء الأمس، ورفاق الأمس، وإخوان الأمس داخل نفس التشكيلات الحزبية حول من يكون وكيل اللائحة؛ بحيث يرى كل واحد نفسه هو المؤهل الوحيد والمطلق، ويرى غيره كان من كان غير مؤهل على الإطلاق. وبكامل الأسف تنطلق الألسن لتنهش الأعراض وتنتقص من الأشخاص وتلطخ السير...إلى غير ذلك من السلوكات الوضيعة التي لا تحسب حسابا للحرام والحلال، ولا لما يليق وما لا يليق من الكلام والأفعال. والعجيب أن الكل يدعي احتياط وترشيد الرأي العام الذي لم يبلغ الرشد بعد وأن هذا أمر معمول به في الأحزاب، وأنه من السياسة، بل إنه هو السياسة عينها. فما هي أبعاد هذا الحرص الشديد؟ وكم حظ النفس منه؟ وكم نصيب المصلحة العامة فيه؟ في البرلمان وجاهة اجتماعية إن المرشح بعدما كان واحدا من عامة الناس وواحدا من ستة وثلاثين مليون نسمة، وبمجرد ما "يفوز" في الاقتراع البرلماني، يصبح واحدا من حوالي ثلاثمائة (300) فرد لهم وضع اجتماعي خاص ومتميز، تتجه إليهم الأنظار والكاميرات وتشير إليهم الأصابع والأضواء وتكثر من ذكرهم الألسن. وهو وضع تهواه النفس البشرية التي عموما ما تحب أن تكون محط انتباه وعناية الآخرين؛ فتحرص على إدراكه حرصا يكاد يكون أعمى، ذلك الحرص الذي ذمه أحد الحكماء بقوله "الحرص مفتاح التعب، ومطية النصب، وداع إلى التفخم في الذنوب"(1) حرص لا تتردد النفس الضعيفة في الاستجابة له بكل الوسائل المشروعة واللامشروعة شعارها في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة". ولكن هل يعلم المرشح أن هذه الوجاهة الاجتماعية لها ضرائب مكلفة؟ أقلها أنها جعلت النائب المحترم مسؤولا عن عشرات الآلاف من المواطنين بعدما كان مسؤولا عن أهله وولده فقط؟ والله إن هذا الهم وحده لكفيل بأن يجعل المرشح يزهد في هذا الأمر أكثر مما يحرص عليه لما يترتب عنه من طول حساب بين يدي الديان الجبار. ولنتأمل قصة أبي ذر رضي الله عنه حين قال: "قلت يا رسول الله أنا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى عليه فيها"(2) وهو توجيه عظيم من النبي الكريم إلى كل من يتطلع لهذه الأمانة الجسيمة دون أن يكون في مستوى تحملها. إذ عليه أن يعلم أن تضييع الأمانة من علامات الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(3) وعليه أن يتذكر أنه حين يستأمنه الناس على أصواتهم بما يقدمه في حملته الانتخابية من وعود وهو يعلم أنه غير قادر على الوفاء بها، أو بما يتحدثهم من حديث يعلم أنه حديث كذب، فإنه اختار لنفسه مآل المنافقين مصداقا لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان"(4)، ومآل المنافقين والعياذ بالله شر مآل قال تعالى: ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) (5). ولا يقل أحد: إنه إذا ما تم استحضار هذه المبادئ لن يترشح أحد وسيظل البرلمان فارغا، لأن الجواب في الحديث الذي أوردناه سالفا؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". وهذا من فقه البرلمان الذي لا يسأل عنه أحد. فمن رشحه الناس بإصرار وإلحاح وقدموه للنيابة عنهم لما يعرفونه عنه من إخلاص وما عهدوه فيه من قدرة على تحمل الأمانة ومن حرص على أداء حقها فليستجب، وليعلم أن ذلك من ابتلاء الله تعالى له. وأنه سيسأل عن هذه الأمانة حفظها أم ضيعها. ومن تجنبه الناس وتحاشوه فليحمد الله تعالى وليهنئ نفسه على هذه النجاة. في البرلمان حصانة نيابية الحصانة البرلمانية حصانة يتمتع بها النائب تجعله في مأمن من الملاحقات القضائية والبوليسية طيلة مدة انتمائه للمجلس النيابي، وهذه أيضا من الامتيازات المغربة جدا التي يسيل لها لعاب النفوس الضعيفة، ولعلها من الأسباب الكبرى التي تكمن وراء الحرص الشديد على المقاعد البرلمانية. لكن هل تساءل المرشحون والبرلمانيون عن تبعات هذه الحصانة؟ هل فكروا في أسباب وضعها من طرف الشرع؟ الظاهر أن هذا أيضا من فقه البرلمان الذي لا يسأل عنه أحد. إن المرشح بمجرد ابتلائه بهذه الأمانة يصبح ملزما بأن ينوب عن المواطنين الذين وضعوا فيه ثقتهم في انتزاع حقوقهم التي غالبا ما يضيعها أصحاب الجاه والنفوذ والسلطان. وللقيام بهذه المهمة لا بد من حصانة ترفع الحواجز والعقبات والقيود عن عمل وتحقيقات واتصالات النائب البرلماني، وتقيه بأس أولئك الذين يريد انتزاع حقوق المواطنين منهم مهما كان نفوذهم وعظم سلطانهم. فالحصانة البرلمانية إذاً حجة على النائب لا تترك له سبيلا إلى الاعتذار بمضايقات ذوي النفوذ وبالقصور في القوانين وما يشبه ذلك مما يمكن أن يعتذر به عامة الناس. هذا هو ما شرعت له الحصانة النيابية، وليس لقضاء المصالح الفردية وغنيمة القطع الأرضية والحصول على الرخص غير الشرعية والاتجار في المحرمات وتصفية الحسابات...وغير ذلك مما يحرص الناس لأجله على هذه الحصانة. فهل يجد المرشحون والبرلمانيون الحريصون على الحصانة نفس الحرص على نصرة المظلومين؟ وهل يستعلمون حصانتهم في دفع أبواب المسؤولين ومساءلتهم ومتابعتهم كما يستعملونها في اتقاء بأسهم وفي التقرب إليهم. هذا أيضا من فقه البرلمان الذي لا يسأله عنه أحد. في البرلمان منحة مالية نعم إنها منحة جد محترمة، تغري النفوس الضعيفة الطامعة ولو كانت غنية منحة تستمر كلما استطاع البرلماني الحفاظ على مقعده، وتتحول إلى تقاعد "محترم" عند مغادرته للمجلس النيابي. لكنها أيضا لها تبعات يجب أن تكون بدورها "محترمة". إذ قرر الشارع صرف هذه المنحة للنائب البرلماني مع عدد كبير من الامتيازات الموازية من تخفيضات وإعفاءات في وسائل النقل العمومي برية وبحرية وجوية، وفي الفنادق والمحلات التجارية وفي حقوق الجمارك على السيارات وعلى كل ما من شأنه أن يعين على المهام البرلمانية...كل هذا هو في الحقيقة حجة على البرلماني الذي لم يعد في إمكانه الاعتذار على القيام بمهامه النيابية بتكاليف التنقلات وانعدام الوسائل المساعدة، هذا إذا تعلق الأمر بالتكاليف العادية، أما المهام الرسمية التي يكلفه بها المجلس فهذه أيضا تصرف لها تعويضات هي أيضا "محترمة". وخلاصة الأمر أن كل ما يبدو في ظاهر الأمر امتيازا في العمل البرلماني، إنما هو في الحقيقة حجة قائمة على النائب البرلماني عليه أن يقدرها حق قدرها، وإلا فإنه الخزي والعار في الدنيا ثم الحسرة والندامة في الآخرة. فهل ينتبه الناس إلى هذا الفقه الذي لا يسأل عنه أحد؟ وهل يحرص الناس على أداء الأمانة وتحمل المسؤولية بحقها مثل حرصهم على الترشيح وعلى "الفوز" بالمقاعد البرلمانية؟ أم هو "حرص دون حرص"؟! ............................................................ 1 من إحدى وصايا الإمام علي رضي الله عنه 2 أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإمارة، من حديث أبي ذر، وأحمد في مسنده، في مسند الأنصار 3 أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الرفاق، من رواية أبي هريرة. 4 أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، من رواية أبي هريرة. 5 سورة النساء الآية 145. بقلم: ذ. أوس رمال