أكد محمد العربي الإدريسي، مشرف على تدريس اللغة العربية ببعض المراكز بفرنسا، على أن هناك إقبال من الجالية العربية والمغربية على المراكز المخصصة لتعليم العربية وثقافة البلاد الأصلية. وأضاف بأن اللغة العربية هي ذلك الحلم الذي يراود الكثيرين في بلاد الغرب، معتبرا في حوار مع جريدة التجديد الورقية ، أن موقع العربية في البلاد الغربية وفي فرنسا على وجه الخصوص لا تتماشى مع الأهمية العددية للجالية المنحدرة من أصول تتكلم العربية. ويؤكد المتحدث الذي يشتغل في الوقت نفسه إماما وخطيبا في فرنسا، أن عددا من الأسر ذات الأصول العربية تواصل مجهوداتها لربط أنفسها وأبنائها بلغتهم الأم عبر الحرص على التخاطب باللهجات المحليه وهو ما يجعل التحدي كبيرا بخصوص اللغة العربية التي لم يمكن أن تغني عنها الدارجة. كما يتحدث ضيفنا عن أهمية العربية بالنسبة لأبناء الجالية مؤكدا أنه لابد من خلق توازن لغوي لدى الطفل خصوصا في مراحله التعليمية الأولى، حيث إن أي تفريط في أي جانب قد يؤثر على مساره ومستقبله، سواء من حيث إغفال اللغات الأوروبية في مراحل التعليم الأولى الذي يؤثر لا محالة على مستوى الطفل المسلم في المدرسة التي يشترك فيها مع زملائه أو من جهة التفريط في اللغة العربية التي اعتبر التفريط فيها جريمة حضارية.
ماذا تعني اللغة العربية في بلاد الغربة؟ وما هو وضعها عند الجالية العربية؟ اللغة العربية هي ذلك الحلم الذي يراود الكثيرين في بلاد الغربة وقليل من يدركه كما ينبغي، ليس لصعوبة إدراكه، بل لعدم سلوك الطريق الموصلة إليه. فالعربية هي لغة القرآن ولغة الدين، لغة البلد الأصل بالنسبة لكثيرين، ولغة الأعمال بالنسبة للبعض، ومع ذلك تعيش وضعية لا تحسد عليها في بلد يؤمن بالعمل والجد والطموح. مع الأسف تعيش اللغة العربية في بلاد الغربة غربة مزدوجة، وإن كانت الغربة الحقيقية ليست غربة المكان، فقد ازدهرت العربية في الماضي في بلاد بعيدة عن مهدها ومسقط رأسها، لكن الغربة القاسية هي التي تأتيها من قبل أهلها، على حد قول القائل: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة..على النفس من وقع الحسام المهند". فبينما تتحدث التقارير والمعطيات عن إقبال متزايد من الأجانب على تعلم اللغة العربية، إما بدافع تجاري عندما يفكر في الاستثمار والأعمال في بلاد عربية كالخليج مثلا أو بدافع ثقافي أو ديني أو حتى دبلوماسي، تعيش اللغة العربية وضعية صعبة. فلا يخفى على المتتبع وغير المتتبع أن موقع العربية في البلاد الغربية وفي فرنسا على وجه الخصوص لا تتماشى مع الأهمية العددية للجالية المنحدرة من أصول تتكلم العربية، فالحيز الذي تحتله العربية في الفضاء السمعي البصري أو التعليمي لا يتناسب مع ما ينبغي لها بحكم وجود جالية عربية مهمة، من المفترض أن يكون منهم مثقفون وذوو مهارات متنوعة تجعلهم يسهمون في تقوية حضورها بما يناسب حجمهم. بينما تواصل كثير من الأسرة ذات الأصول العربية مجهوداتها لربط أنفسها وأبنائها بلغتهم الأم عبر الحرص على التخاطب باللهجات المحلية (الدارجة) فإن التحدي يبقى كبيرا بخصوص اللغة العربية، حيث القدرة على القراءة والكتابة والمحادثة باللغة العربية نادرة جدا، نظرا للمجهودات القليلة في هذا الجانب وغياب الرؤية والتصور الصحيح للمسألة اللغوية، حيث الاعتقاد السائد أن مجرد اكتساب الثقافات الأصلية ولهجات البلاد كاف في هذا الاتجاه. وفي نظري لا يمكن احتساب المعرفة المهمة للهجة الدارجة المغاربية في الغالب على اللغة العربية إلا من باب احتساب الفرع على الأصل، وهو شيء على أهميته لا يرقى للعب دور مهم في الحفاظ على العربية والريادة بها في العالم كله. ما مقدار الحاجة عند المهاجرين أو أبنائهم لتعلم العربية؟ ومدى وعيهم بأهمية المسألة في الغربة؟ حسب تجربتنا المتواضعة في هذا الجانب، يمكن القول إن الجالية العربية واعية بأهمية تعليم اللغة العربية لأبنائها، فمن سنة لأخرى يزداد الإقبال على المراكز المخصصة لتعليم العربية وثقافة البلاد الأصلية (تعليم الدين الإسلامي والقرآن الكريم). كما أن عددا منهم يحرص على إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية التي تخصص حصصا أسبوعية اختيارية لتعلم اللغة العربية إما كمادة إضافية يمتحنون فيها بالنسبة للإعداديات والثانويات أو كمادة إضافية غير ممتحن فيها بالنسبة للمدارس الابتدائية، كما أن الجامعات الغربية لا تخلوا من وجود مواد تكميلية في اللغة العربية وبعضها شعب متخصصة في اللغة والثقافة العربية. وبالرغم من هذا الحرص والاهتمام المتزايد، ففي تقديري تبقى النتائج جد متواضعة، حيث لا يفي ما هو حاصل بالمطلوب في تعليم اللغة العربية، حيث صار إرسال الأبناء إلى المراكز الإسلامية لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم في حكم التقليد كما كان الشأن بالنسبة للكتاب القرآني في بلاد المغرب، حيث الكل يدخل إلى (المسيد) لكن ليس كل من دخل إليه يخرج بالفائدة المرجوة التي ربما تكفيه للخروج من الأمية اللغوية. هناك إذن طلب متزايد على تعليم اللغة العربية، وحاجة ملموسة لدى أولياء الأمور لتعليم أبنائهم، غير أن وضع اللغة العربية لا يتناسب كما ذكرنا مع حجمهم وعددهم، مما يعني أن الحاجة ينبغي أن تكون أكبر والطلب على التعليم العربي ينبغي أن يكون أكثر، ولكن نأسف إذا قلنا إن هذا خلاف الواقع. هل هناك جهات تتصدي لهذه الحاجة سواء كانت مؤسسات رسمية، بعثات، مراكز إسلامية؟ هناك من يستشعر خطورة الموقف ويسعى للقيام بجزء من الواجب تجاه اللغة العربية، ويبدو أن الجهد الأكبر تقوم به المساجد باعتبار أن المساجد هي ثمرة مجهودات الآباء الذين انخرطوا في تأسيسها وبنائها وفي نيتهم أنها ستكون الملجأ لهم ولأبنائهم لتعليم الدين واللغة العربية وتحصينهم من الانحراف وتثقيفهم الثقافة الإسلامية والفهم الصحيح للدين. فلا يكاد يكون مسجد إلا وفيه مجهود لتعليم اللغة العربية، قل أو كثر، وحيث يتعذر التعليم في المسجد فإن السبب نابع من خلافات وأزمات يمر بها في التسيير ليس إلا. المساجد ليست فقط الأماكن التي تعطي الأمن الروحي للجالية المسلمة، وإنما هي أكثر من ذلك مؤسسات تعليمية قائمة بذاتها، تعلم الأطفال والكبار والنساء كما الرجال، بدرجات متفاوتة، حيث تعليم الأطفال يأتي أولا ثم التعليم النسائي ثم الشبابي ثم في نهاية المطاف بعض المجهودات في محاربة أمية كبار السن لكنها قليلة جدا. لا يمكن أن نبخس حكومات دول الأصل التي ينحدر منها المهاجرون حقها، في دعم تعليم اللغة العربية ببعثات وتعاقدات مع الحكومات الأوربية، مثل برنامج (ELCO) الذي ينظم هذه البعثات التي تساهم في التعريف بثقافة البلد الأم ولغته. كما لا ننسى بعض مجهودات الأفراد والمؤسسات الإسلامية الأهلية في البلاد الغربية التي تسعى ضمن أنشطتها التأطيرية في تقديمها تعليما في اللغة العربية إما في المساجد التي تؤطرها وتشرف عليها كما ذكرنا من قبل أو في مقرات الجمعيات، ومنها ما تبلور في شكل مدارس خاصة بمستويات مختلفة تنافس المدارس الحكومية في المقررات المفروضة وتزيد عليها بحصص في الدين الإسلامية واللغة العربية. وفي الأخير، لا يمكن إغفال الجهد الذي تقوم به بعض مؤسسات النشر في خدمة اللغة العربية، حيث تقيم اللقاءات التأطيرية والدورات التكوينية لمدرسي اللغة العربية، وتجتهد في تأليف المقررات التعليمية والتعريف بها والسعي إلى توحيد المدارس على الأخذ بها، ونشر وطباعة الوسائل اللوجستية التعليمية المناسبة، وليس مهما إن كان الدافع هنا أو هناك البحث عن الربح المادي، ما دامت الخدمة سليمة والثمرة محصلة. ما أهم الصعوبات التي تواجه العربية والمشتغلين بها هناك؟ بخصوص التحديات التي تواجه اللغة العربية في بلاد الغرب، فهي في الأساس مزاحمتها من طرف اللغات الأجنبية، حيث لابد من خلق توازن لغوي لدى الطفل خصوصا في مراحله التعليمية الأولى، فأي تفريط في أي جانب قد يؤثر على مساره ومستقبله، فإغفال اللغات الأوروبية في مراحل التعليم الأولى يؤثر لا محالة على مستوى الطفل المسلم في المدرسة التي يشترك فيها مع زملائه وقد يؤثر في نتائجه الدراسية مما يؤثر في مساره التعليمي وحياته المهنية مستقبلا، كما أن التفريط في اللغة العربية جريمة حضارية لا ينبغي الإقدام عليها والمغامرة فيها، ولذلك فالمعادلة صعبة والتحدي خطير يستلزم مواكبة مختصين تربويين وبيداغوجيين لهذه العملية حتى لا تكون اعتباطية. ومن بين الصعوبات التي تواجه اللغة العربية في بلاد المهجر عدم انتظام تعليمها وعدم كفاية الحصص الأسبوعية المقدمة، حيث غالبا ما يتم إعطاؤها يومي السبت والأحد الذين هما يوما عطلة دراسية يستريح فيها الطلاب ويروحون فيها عن أنفسهم، فلنا أن نستنتج كيف ستكون نفسية تلميذ يأتي ربما مكرها من والديه ليتعلم لغة لم يقتنع في مثل سنه بجدواها وأهميتها في مستقبله الدراسي وحياته المهنية، بينما أصدقاؤه ذهبوا إلى السينما أو لقضاء أوقات استجمام في مكان ما سيرجعون يوم الإثنين ليتحدثوا أمامه بما فعلوا، أو عند سؤال الأستاذ أو المعلم عن هواياتهم المفضلة في عطلة الأسبوع. بالإضافة إلى ذلك هناك الصعوبات المادية التي تحول دون أن يكون لهذا التعليم مردود كبير، حيث يفتقد في الغالب إلى البنايات اللائقة بالتعليم، ذلك أن عدم الكفاية التمويلية تحول دون بناية أقسام مؤهلة لاحتضان التعليم العربي في الغرب، أو إنجاز باحات وساحات ترفيه تشكل داعما تربويا لاستقطاب التلاميذ، بالإضافة إلى أن بناء المساجد في ظل الضغوطات المالية التي تفوق الطاقة المادية للمهاجرين مع ضعف الوعي بأهمية تجهيز المشروع بما يلائم ينتج هذه البيئة غير المساعدة في الغالب على التعليم. نشير إلى أن اللغة العربية على ضعفها ووضعيتها الهشة لا تسلم من النيل منها من طرف السياسيين المحسوبين على اليمين المتطرف، حيث نسمع مثلا من يدعون إلى عدم السماح للأئمة والخطباء بالخطبة بالعربية على المنابر يوم الجمعة، وذلك بالرغم من أن كثيرا من المساجد تختار خطبة باللغتين العربية والفرنسية، ولا يمكن إلا أن نتوقع استمرار هذه الهجمات المغرضة والتصعيد لأنه كلما زادت مكتسبات العرب والمسلمين إلا وازدادت صعوباتهم والحملات التي تستهدفهم. ماذا عن أساتذة العربية أو الثقافة الإسلامية أو المؤطرين في المراكز الإسلامية بهذا الخصوص؟ تلك آفة أخرى تنضاف إلى قائمة التحديات والصعوبات، فباستثناء المعلمين المبتعثين، الذين من المفروض أن يخضعوا للضوابط والشروط الموضوعة للابتعاث، فإن من شأن قطاع غير منتظم أن يكون اعتباطيا في انتقاء المدرسين والمعلمين، صحيح ربما هناك بعض النضج والتطور في هذا الاتجاه أي اختيار معلمين أكفاء في المراكز الإسلامية، لكن أي اختيار تبقى خياراته محدودة، ذلك أن هؤلاء المعلمين غالبا ما يكونون حاصلين على شواهد، لكن الشواهد وحدها لا تكفي إذا لم يكن هناك تكوين بيداغوجي تربوي يؤهل مدرسي اللغة العربية للتعامل مع التلاميذ ويكسبهم مهارات التدريس والتواصل. كنت أشرت إلى بعض المجهودات في التدريب والتأطير التي تقوم بها بعض دور النشر، شيء جميل يستحق التشجيع لكنه غير كاف، ينبغي أن تكون المبادرة من المراكز الإسلامية نفسها في تجميع نفسها، وتكوين أطرها تكوينا مستمرا، وتوحيد مناهجها، ووضع مواثيق جودتها ومناقشة أفكارها ومشاكلها، وقديما قيل: "ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك". عدد كبير من هؤلاء المدرسين متطوعون أو في حكم المتطوع، بالنظر إلى المكافئات والتشجيعات، حتى لا أقول الرواتب، التي تعطى لهم مقابل خدماتهم، وهذا فيه دليل على ارتجالية تعليم اللغة العربية، فحتى تكون المردودية كافية ينبغي أن يعطى القائم على العمل من المكافئات المادية والمعنوية ما يجعله يشعر بالمسؤولية الكاملة في عمله، ويتيح إمكانية محاسبته على عمله. هذا بينما أموال طائلة تصرفها الدول التي ينحدر منها المهاجرون ولا يعثر لكثير منها على أثر، تتصرف فيها هيئات لا أثر لها في الواقع إلا ببعض البيانات واللقاءات التي يحضرها من الصحفيين والكاميرات ربما أكثر مما يحضرها من المستفيدين، تسمع جعجعة ولا ترى طحينا، ترى دخانا ولا تجد نارا، بينما العاملون والفاعلون الحقيقيون يعانون في صمت ويشتغلون بما تيسر لديهم من إمكانات. هل من رسالة إلى جهة ما بهذا الخصوص؟ من منطلق مصلحة وطنية واضحة، نرى لزاما أن نهتم بهذه الطائفة من المواطنين الذين ألجأتهم الظروف المعيشية -بالنسبة لأغلبهم- إلى هجرة بلدهم وقبولهم بوضع لا يمكن الفرار فيه من وصف الغربة بحال من الأحوال، ففي الوقت الذي يطمع الجميع أن يكون اتصالهم دائما ومتواصلا على مر الأجيال والعصور ببلدهم الأصل، لا ينبغي في الوقت نفسه أن يتم التفريط في أبسط حقوقهم وهو مساعدتهم على ربط أبنائهم بلغتهم ولغة دينهم.