اثار المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري ضجة لم تهدأ بعد حين تحدث عن ما سماه ظاهرة «العقل المستقيل» في الطور التشكيلي للثقافة الإسلامية. وكان الجابري يشير تحديداً إلى نشأة تيارات فكرية تدعو في ظاهر أمرها إلى العقلانية، ولكنها تتوسل إلى ذلك وسائل، وتتوصل إلى نتائج، تناقض مقتضى العقل. وقد كانت النتيجة هي أن التيارات التي تدعي «العقلانية» (خاصة فلاسفة الافلاطونية الجديدة ومن تابعهم) أخذت تروج للخرافة، في حين أن التيارات «الغيبية» المناهضة لها أصبحت خط الدفاع الأخير عن العقل. ويبدو أن الأمور لم تتغير كثيراً منذ تلك الحقبة المحورية في التاريخ العربي الإسلامي. فها نحن نشهد المزيد من العجائب والغرائب التي تحير كل عقل وكل عاقل. ومن ذلك نتائج الانتخابات التونسية بجولتيها خلال الأسابيع القليلة الماضية. احتفل الكثيرون بتلك الانتخابات باعتبارها عرساً ديمقراطياً نادراً في عصر الظلام والتخبط العربي المعاصر، وهي رؤية لها ما يبررها. ولكن قطاعاً لا يستهان به من التونسيين صوتوا بالجملة، بعد أن انتزعوا حريتهم بتضحيات كبيرة، للحزب الذي يرمز لعهد الدكتاتورية التي ثار الناس ضدها. وفي انتخابات الرئاسة، صوت أكبر قطاع لرجل في أوشك أن يبلغ التسعين من العمر، أفنى جل عقوده التسعة في خدمة الدكتاتورية، ولم يخطر له يوماً أن يحلم بالحرية له أو لغيره. فكما أسلم بعض الأسلاف العقل لعهدة الخرافة، وضع البعض اليوم الحرية في عهدة رهبان الطغيان وكهنة معبده. في مصر القريبة، شهدنا ما هو أعجب، حيث سجد الشعب الذي ألهم العالم كله بثورته الظافرة من أجل الحرية تحت أقدام من دمر الحرية، وتطوعوا بوضع رقابهم تحت أحذية جلاديهم. وقد يكون من الصعب لوم زعيم حزب ينتسب اسماً لدكتاتور ميت حين يقول للدكتاتور الجديد «يا سيدي»، ولكن طائفة أكبر من دعاة الحرية وأنصار العقلانية لم يجدوا حرجاً في التصفيق للدبابات وهي تسحق زهرة الحرية، وللبنادق وهي تحصد الأرواح البريئة. وجد هؤلاء الأمن في حفلات التعذيب التي تسحق إنسانية الضحية وهو يواجه الوحش الفاقد للإنسانية أيضاً، وفي اكتظاظ السجون بالأبرياء، وامتلاء الجو برائحة الكذب النتنة. وقد كنت قبل يومين أحاور في عاصمة عربية أكاديمياً أمريكياً مرموقاً لم ينقطع عجبه من صديقه الروائي المصري الذي اشتهر بوقفته الرائعة حين رفض جائزة رسمية احتجاجاً على النظام الدكتاتوري السابق، ولكنه اليوم يسبح بحمد من يخجل منه الدكتاتور المسكين صاحب البراءة. في سوريا كذلك، رأى عدد غير قليل من «المفكرين» عين العقل، بل طوق النجاة، في تدمير بلد بكاملها من أجل بقاء دكتاتور مجرم وطغمة فاسدة في الحكم. أصبح عند هؤلاء تهجير الملايين، وقتل وسجن وتعذيب ملايين آخرين، وكل دمار ووحشية، مبرراً، بل ومطلوباً، من أجل الحفاظ على وضع أصبح وهماً وخرافة بمجرد أن سالت قطرة الدم الأولى. فليس العجب هنا هو التجرد من كل وازع أخلاقي، واللامبالاة بالفظائع والموبقات، ولكنه فوق ذلك في التجرد من العقل والفهم كذلك، وعدم إدراك أن هذا الغرق في الدماء والآثام لا يمكن أن ينقذ نظاماً، ناهيك أن يبشر بأن مثل هذ النظام هو طوق نجاة العرب من العبودية للغير!! ألا في الفتنة سقطوا، كما جاء عن أمثالهم في صحيح التنزيل. فأي عبودية شر من هذه؟ وليس الأمر في العراق من ذلك ببعيد. بل هناك جمع القوم بين الحسنيين، فرحبوا بالغزو الأجنبي باعتباره فجر التحرير الأبلج، ثم ارتموا في أحضان شيوخ الطائفية و «مراجع التقليد»، وقادة ميليشيات القتل في استقالة مزدوجة للعقل والدين. فالحرية عند هؤلاء دبابة أمريكية يستظلون بظلها، وكاهن يتولى التفكير والاجتهاد نيابة عنهم، وزعيم ميليشيا يمارس القتل والإجرام لمصلحتهم. فهم بين «خليفة» مستورد، وميلشيا لا يعرف أصلها، و»تحالف» يأتي بالخلاص من السماء. وفي ليبيا، حدث ولا حرج، حيث ينقسم الناس بين من يطلب الخلاص عند جنرال أدمن الفشل، وبين من يطلبه عن ميليشيات لم يكن سجلها مما يسر أو يشرف رغم بلائها السابق في محاربة الدكتاتورية. هنا أيضاً، يهرع الناس نحو قيود العبودية من فضاء الحرية، ويبحثون عمن يستعبدهم بدلاً من أن يحرروا أنفسهم. ولينظر ناظر إلى اليمن السعيد، حيث يبدو كما لو أن الشعب كله منوم مغناطيسياً، بينما تفرض عليه ميليشيا مارقة سطوتها وهو غائب مغيب عن الوعي. ويذكرنا هذا بالرواية الشائعة حين كان الجندي المغولي يطلب من طائفة كبيرة من الناس انتظاره حتى يبحث عن سيف يقطع به رؤوسهم، فلا يجرؤ شخص من بينهم على التحرك حتى يأتي المجرم للإجهاز عليهم. لا يمكن أن تكون كل هذه الأمور مصادفة. فنحن هنا أمام تطابق في ردود الفعل عبر البلدان والأعراق والطوائف واللغات. على سبيل المثال، كنت في تركيا في وقت سابق من هذا العام، وشهدت فئة كبيرة من «المثقفين» وهي تتأذى من وضع تركيا الديمقراطي، حيث لا يكاد يوجد حجر على الحريات العامة او الشخصية، وفي بلد يشهد ازدهاراً اقتصادياً يشبه المعجزة. ولكن هذه الفئة من المثقفين كانت تتوق لعهد كان العسكر يملون فيه على الناس ماذا يلبسون وماذا يقولون! وفي ذاك البلد «العلماني» المنفتح، يحج «المستنيرون» إلى ضريح أتاتورك كما يحج جيرانهم إلى ضريح الخميني. أما أمثلهم طريقة فينقادون إلى رجل حبيس المعتقل، وهو على كل حال أفضل بقليل ممن يحكمهم حاكم من وراء القبور! فالكل على مذهب بني إسرائيل في عبادة العجل الذي يصنعونه بأيديهم، فهم لا يطيقون الحرية والانعتاق! هل يتحتم علينا إذن الاعتذار إلى المستشرقين الذين طالما جادلناهم ورددنا عليهم مزاعمهم بأننا أمة لا تطيق الحرية ولم تخلق لها؟ أذكر أنني كتبت وانتفاضة ميدان التحرير ما تزال في أوجها، ولما يكتب لها النجاح بعد، مفتخراً بأن شباب ميدان التحرير قد ألقموا خصومنا المستشرقين حجراً «على الهواء مباشرة»، فأثبتوا لكل العالم أن عشق الحرية يسعى في دماء هذه الأمة التي انتزعت الحرية انتزاعاً، وليس منحة من أحد. ثم كانت انتفاضتا ليبيا وسوريا معجزتي الزمان في الشجاعة والإقدام في وجه أنظمة كافرة بالكرامة الإنسانية، قتل النفس التي حرم الله عندها أهون من شرب الماء. فلم يعد بإمكان أحد أن يعير هذه الأمة بأنها راغبة عن الحرية، خانعة للطغاة. ولكن... تلك أمة قد خلت، وعهد قد مضى. وها نحن نشهد كثيراً من «ثوار» الأمس ينتفضون من أجل الدكتاتورية، ويستعطفون العسكر حتى يمنوا عليهم بطغيان واستبداد، ويصوتوا لرجال الماضي، ويلعنون الفجر ويحتفلون بالظلام. فهل افترى علينا المستشرقون بالباطل، أم أننا نصدقهم بأفعالنا، حتى أصبح نتنياهو يعير أمتنا بحكامهما، وهو صادق؟ إننا نعتقد أن الجابري رحمه الله قد أخطأ حين تحدث عن استقالة العقل وتنحيه. فهذا المزعم يفترض وجود عقل مالك لأمره، يقرر طوعاً الاستقالة ونفض يديه من الأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال منها. ولكن واقعنا اليوم يشكك في وجود مثل هذا العقل في الأساس. وقد يقول قائل على مذهب مشايخ المتصوفة إن العبودية الاختيارية هي عين الحرية، وقد نصدقه لولا أن المولى تعالى أخبرنا ورسوله أن من يسلم عقله لغيره هو وعابد الصنم سواء بسواء.