لم يكن كريستيان شينو وجورج مالبرونو هما الصحافيين الفرنسيين الرهينتين في يد المجموعة المسلحة التي تطلق على نفسها الجيش الإسلامي في العراق، بل كانت الجالية المسلمة الفرنسية كلها رهينة لهذا الاختطاف. ولم يكن الخاطفون يطالبون فرنسا بالتخلي عن قانون منع العلامات الدينية ومنها الحجاب في المدارس، بل كانوا في حقيقة الأمر يطالبون بالتخلي عن كل المكتسبات التي حققها مسلمو فرنسا من بين غبار وآلام وأخذ ورد، دامت أكثر من عقدين من الزمن. هكذا بدت الصورة في حقيقة الأمر، وأنى لمجموعة فقهها الشرعي الديني قليل، وإدراكها السياسي العالمي ضحل، وواقعها العراقي يموج بالفوضى التي لا مثيل لها، أنى لها أن ترى الصورة مستوية على هيئتها، متجلية في كل أبعادها، متداخلة في عناصرها وعقدها المحلية والإقليمية والدولية. اختطاف الحجاب
رغم أن ألان مينارغ مدير قسم الأخبار في إذاعة فرنسا الدولية أكد أن عملية الاختطاف كانت في أول الأمر عشوائية -يوم 20 غشت 2004 وشملت عددا من الأشخاص منهم صحافيون في منطقة خطيرة جدا ينعدم فيها الأمن، وتتعدد فيها الوساطات والاتصالات والاختطافات، وكشف مينارغ بعض المعلومات الهامة عن عملية الاختطاف في حين أبقى جزءا كبيرا من المعلومات إلى حين تحرير الرهينتين، ومما قاله مدير قسم الأخبار بالإذاعة الفرنسية الدولية إن الصحافيين تم اختطافهما من لدن جهة أولى اعترضت سبيل قافلة من الصحافيين كانوا 12 فردا فيهم 6 فرنسيين، ثم تم بيعهما أو تبديلهما برهائن أخرى مع جهة ثانية، أي أن الاختطاف كان دون تخطيط ولا متابعة ولم يتم لأنهما فرنسيان ولا لأسباب سياسية. أما كيف وصلا إلى يد الجيش الإسلامي في العراق فتلك قضية أمسك عنها الإعلامي الفرنسي إلى حين. وفجأة سمعنا أن الخاطفين يطالبون الحكومة الفرنسية بالتخلي عن قانون منع الحجاب بالمدارس، فهل كان الخاطفون على وعي بمطلبهم، وهل كانوا يدركون أن عملهم هذا تزامن مع حدثين كبيرين هما الدخول المدرسي بفرنسا والشروع في تطبيق قانون منع العلامات الدينية بالمدارس وخاصة الحجاب، واليوم العالمي لنصرة الحجاب الذي كان مقررا يوم الرابع من شتنبر من لدن التجمع العالمي لنصرة الحجاب؟ فعلى الصعيد الأول، كان مسلمو فرنسا على أهبة خوض معركة قانونية استعدوا لها طويلا عن طريق لجنة 15 مارس والحرية التي يرأسها الدكتور عبد الله وهو فرنسي أسلم منذ مدة، وتسعى هذه اللجنة إلى المساعدة على الحوار وتقديم السند المعنوي والرعاية القانونية، وتقديم بديل ودعم مدرسي في حالة طرد التلميذات المحجبات. أما اليوم العالمي لنصرة الحجاب فهو تجمع أنشئ يوم 26 دجنبر 2003 بمبادرة من جمعيتين بريطانيتين، هما جمعية المرأة المسلمة وجمعية الرابطة الإسلامية للدفاع عن النساء المسلمات اللاتي يعانين من منعهن ارتداء الحجاب في عدة بلدان مثل فرنسا وألمانيا وتونس وتركيا ودول أخرى حسب بلاغ صادر عن التجمع قبيل عملية الاختطاف بأيام. تزامن عملية الاختطاف مع هذين الحدثين قلب الوضع رأسا على عقب وحول الضحية إلى متهم، وأصبح الحضور الإسلامي في أوروبا عامة وفرنسا خاصة هو الرهينة الحقيقية للمختطفين، وكانت العملية ضربة صماء أسكتت الأصوات وأوقفت كل التصريحات والتحليلات والاستعدادات والترتيبات، وخشي المسلمون الفرنسيون من أن تنقلب لعنة دماء الصحافيين المهددين بالقتل عليهم جميعا، خاصة وأن تنفيذ القتل في حق العمال النيباليين الاثني عشر ظهرت نتائجه الوخيمة في المظاهرات التي نظمت بالنيبال وراح ضحيتها بعض المسلمين وانتهكت فيها مساجد وأحرقت فيها مصاحف وكتب، مما جعل المسلمين في وضع حرج جدا نتيجة تهور أعمى وعمل غير مدروس العواقب. ولو أن مسلمي فرنسا لم يظهروا وعيا سياسيا عاليا ومواطنة فرنسية رفيعة المستوى لأصبحوا في وضع الاضطهاد والكراهية المضاعفة.
نجاح مزدوج
حققت فرنسا نجاحا سياسيا مزدوجا غير مسبوق داخليا وخارجيا في أزمة صحافييها بالعراق. فعلى صعيد العالم العربي والإسلامي حظيت بتعاطف واسع على الصعيدين الرسمي والشعبي لم يسبق له مثيل إذ أدانت كل الهيئات مثل هذا التصرف مع فرنسا التي وقفت موقفا مشرفا ضد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، وهو التعاطف الذي أثار مشاعر الغيرة والسخط عند رئيس الوزراء العراقي المؤقت إياد علاوي مطلقا تصريحات أثارت الحكومة الفرنسية التي اعتبرتها سيئة للغاية في وقت حرج جدا. كما أن لفرنسا موقف متميز في القضية الفلسطينية أبقى لها صورة حسنة في العالم العربي والإسلامي رغم قضية الحجاب. وبالإضافة إلى هذا، فإن الديبلوماسية الفرنسية أكدت أن خيارات فرنسا ورهاناتها السياسية الخارجية كانت على صواب، وأنها في مأمن من الضربات الإرهابية وأنها لا بد من الاستمرار في الحفاظ على ثوابتها السياسية الخارجية، الشيء الذي كان يمكن أن ينهار لو أن الخاطفين نفذوا تهديداتهم بالقتل في حق صحافيين عرفا بتعاطفهما مع العراق وفلسطين. وعلى الصعيد الداخلي التحمت كل قواها الوطنية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وتجمعت كلمتها في وقت عصيب، وانتزع مسلمو فرنسا الاعتراف من الجميع بفضل تحركهم السريع واستجابتهم للتحدي ومبادرتهم الرائدة بالسفر إلى المنطقة الساخنة لاستخلاص الرهينتين وتحريرهما من يد الخاطفين ودفاعهم المستمر عن الجمهورية الفرنسية وقيمها. صورة ستبقى عالقة بالأذهان الفرنسية وستساهم بلا ريب في تغيير النظرة إلى المسلمين وتصحح الشوائب العالقة بها من أثر عمل إعلامي مغرض، وعمل نال إعجاب الأصدقاء والخصوم، وقدم سندا ديبلوماسيا متميزا لوزير الخارجية ميشيل بارنييه وهو يتردد بين القاهرة وعمان وقطر في سعي حثيث لتحرير كريستيان شينو وجورج مالبرونو. وكانت قضية الرهينتين أول امتحان صعب للمسلمين الفرنسيين وهيئتهم التمثيلية منذ المولد العسير للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في ماي .2003 وحيى وزير الداخلية الحالي دومينيك دو فيليبان -ذو الخبرة الواسعة حول العالم العربي والإسلامي إذ كان وزيرا سابقا للخارجية قبل أن يتولى مقاليد الشأن الأمني الداخلي في التشكيلة الحكومية- تحرك مسلمي فرنسا من أجل الجمهورية. واعترف كثير من الرافضين لسياسة نيكولا ساركوزي -وزير الداخلية السابق ووزير الاقتصاد حاليا- في تمثيلية المسلمين وإدماجهم في الحياة العامة أنه كان على صواب وحق، مما دفع بساركوزي وهو يرى بذور سياسته تثمر في أحلك اللحظات وأصعبها لتقديم تهنئة خاصة للوفد الممثل لمسلمي فرنسا على عمله الرائد وقال أريد أن أحييهم لأنهم أظهروا كثيرا من الشجاعة والشعور بالمسؤوليات في هذه الأزمة. وردد التحية والافتخار ذاتيهما في كلمته أثناء انعقاد الجامعة الصيفية للحزب الحاكم يوم السبت 4 شتنبر 2004 عندما قال: كم ينبغي ان يكون افتخارنا بالعمل الذي قامت به الجالية المسلمة الفرنسية.
ما تزال التساؤلات تتردد حول مهمة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، منها تساؤلات وضعت يوم قرر ساركوزي وزير الداخلية يومذاك إؤنشاء هئة تمثيلية لمسلمي فرنسا، ومنها أسئلة جديدة وضعتها الأحداث الجديدة وعلى رأسها تطورات قضية الحجاب واختطاف الرهائن الفرنسية. لأي شيء أحدث المجلس الفرنسي للدين الإسلامي؟ سؤال ظل حاضرا قبيل إنشائه وبعد ظهوره، وشبيه بهذا السؤال شقيق له يشبهه في المنطوق لكن يفوقه في المضمون، وهو السؤال الذي جاء على لسان دحاو مسكين إمام مسجد السين سانت دوني إذ قال: هل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية موجود هنا ليمثل المسلمين أمام السلطات العمومية، أم ليمثل السلطات العمومية أمام المسلمين؟ وقد بقي المجلس الممثل للمسلمين الفرنسيين موضع محاذير ومخاوف زادت من حدتها الجهات الإسلاموفوبية التي ضغطت على وزراء الداخلية السابقين، فساركوزي ذاته وجد نفسه محاصرا بموجات من اللوم المتكرر بسبب استحواذ اتحاد المنظمات الإسلامية على نتائج انتخابات أبريل 2003 وإفساحه المجال أمام حصان طروادة جديد في ساحة الإسلام الفرنسي، وحضوره في المؤتمر السنوي لمسلمي فرنسا في معرض لوبورجيه . التحذير ذاته تلقاه دومينيك دوفيليبان إثر استلامه أمور وزارة الداخلية في أبريل 2004 وأخذه في الحسبان، لكن عملية الاختطاف قلبت النظرة والميزان، إذ وجد وزير الداخلية الجديد نفسه أمام مبادرة من داخل المجلس الممثل للمسلمين، غير أن قائلها ومقترحها هو اتحاد المنظمات الإسلامية على لسان فاطمة اجبلي المقربة من الاتحاد لما اقترحت نفسها لتكون رهينة بديلة عن الصحافيين الفرنسيين يوم 29 غشت، وعلى لسان فؤاد العلوي نائب رئيس الاتحاد وعضو المجلس الفرنسي للدين الإسلامي يوم التقى هذا المجلس مع دوفيليبان الثلاثاء 31 غشت على هامش الصلاة الجامعة المنظمة بمسجد باريس. في هذا الصدد كتب كسافييه تيرنيسيان في نهاية مقاله بيومية لوموند يوم السبت 4 شتنبر 2004 مقطعا معبرا يقول فيه: في وزارة الداخلية، يتذكر الموظفون الذين يتوفرون على ذاكرة طويلة أن نيكولا ساركوزي نفسه ضرب المكتب بقبضة يده معلنا معارضته لاتحاد المنظمات الإسلامية يوم دخوله ساحة بوفو -اسم الساحة التي يوجد فيها مقر وزارة الداخلية- وقال في 20 يونيو 2002 وهو يستقبل ممثلي المسلمين الفرنسيين لن أترك التطرف يجالسني على طاولة الجمهورية. وبعد شهور قليلة تسلم راية الدفاع عن الاتحاد في قناة فرانس 2 معتبرا أنها تمثل الأورثوذوكسية المسلمة. وأضاف الكاتب الصحافي تيرنيسيان هذه الجملة البليغة حيث قال: كشف مستشار في وزارة الداخلية بأسلوب فلسفي أنه كلما جاء وزير جديد إلا ويحدث الشيء نفسه. يبدأ في أخذ حذره من اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا. وما أن يأخذ الوقت الكافي للتعرف عليهم، حتى يقبل العمل معهم...
خلاصة
يمكن القول إن مسلمي فرنسا قد خرجوا من عنق الزجاجة، وتجاوزوا عقبة كبيرة بنجاح، وأنجزوا مهمة ديبلوماسية رفيعة المستوى، وأثبتوا أن الاندماج ليس مشكلتهم الذاتية، وإنما المشكل في المحيط السياسي العام والذهنية الإعلامية والأمنية، وأنهم لا يقلون وطنية والتزاما يقيم الجمهورية ودستورها ومكانتها في العالم الإسلامي على الخصوص. هذا بالإضافة إلى تعبيرهم الواضح القوي على أن مشاكلهم وقضاياهم فرنكوفرنسية داخلية يستطيعون حلها والتغلب عليها بحكمة واقتدار بالتفاهم والحوار، لا بالتصلب والتطرف، وأن الإسلام، وإن كان دينا عالميا كونيا، إلا أنه أيضا يؤمن بالخصوصيات السياسية والثقافية والاجتماعية التي ينتقل إليها في هذا العصر، كما حدث في القرون الأولى، وأنه ليس لديه أي مشكل في أن يحيا في ظل علمانية راعية تسهر على إحقاق الحقوق وتحمي الحريات. شيء ثمين كسبته فرنسا في هذه الأزمة يمكنها المراهنة عليه مستقبلا، وهو الدور الديبلوماسي الديني والثقافي الذي يمكن أن يقوم به مسلمو فرنسا في علاقاتها مع العالم الإسلامي وتمتين الروابط وتحسين الصورة وتنظيفها من الشوائب التاريخية العالقة بها، وإنه لدور رائد إذا تعزز بنموذج تجديدي في فهم الدين الإسلامي وتنزيله على بيئة غير بيئته التاريخية. حسن السرات