لم تتوقف الأخبار عن انتهاكات (إسرائيل) للمسجد الأقصى منذ العام 1967. البيانات العربية ضد الانتهاكات مستمرة، وكذلك شكاوى العرب إلى الأممالمتحدة والمنظمات الدولية المختلفة، وتمسك العرب بما يسمى بالشرعية الدولية والقانون الدولي ازداد صلابة ومهنية. عملية تهويد القدس بقيت تسير بوتيرة متصاعدة، وكذلك عملية الزحف على المسجد الأقصى بهدف الاستيلاء عليه. كل ذلك يجري تحت سمع وبصر الشعوب العربية والأنظمة العربية والإسلامية والأحزاب العربية والإسلامية المختلفة القومية منها والاشتراكية والدينية، لكن لا نرى فعلا على الأرض، ولا مبادرة جدية من أجل ردع إسرائيل وإنقاذ المقدسات. ولا بد أن العربي قد أصبح على يقين عبر الزمن أن الذين يدافعون عن الأقصى بالشجب والاستنكار لا يملكون أكثر من ذلك، وعليه ألا يتوقع أكثر من ثرثرات في الهواء لا معنى لها ولا تعيرها إسرائيل انتباها. مخططات (إسرائيل) معلنة يُخيل للعربي الذي يستمع إلى أخبار الأرض المحتلة عام 1967 وحال المقدسات أن إسرائيل تقدم على خطوات مفاجئة لم تكن واردة في الحسبان. في كل مرة تنتهك فيها (إسرائيل) المقدسات يتم تناقل الخبر وكأن إسرائيل تتبنى سياسة جديدة غير معلنة، وأن على العرب أن ينتبهوا جيدا إلى المؤامرات الجديدة. هذا خداع لأن (إسرائيل) عملت منذ قامت على وضع مخططات تخضع للتعديل بين الحين والآخر بشأن المدينة المقدسة والأماكن الدينية. حتى إن الحركة الصهيونية قبل قيام (إسرائيل) عملت على الاستعانة بخبراء أوروبيين في تخطيط المدن ليضعوا مخططات تتوافق مع الرؤى السياسية والدينية اليهودية والصهيونية. ومنذ العام 1967 و(إسرائيل) تنشر مخططاتها على الملأ بشأن مدينة القدس، وهي لا تخفي شيئا في هذا المجال، كما أن حفرياتها وأنفاقها تحت المسجد الأقصى أكدت مرارا وتكرارا نواياها التي تنبثق تدريجيا أمام العالم كسياسات عملية تعمل على تغيير واقع المدينة المقدسة والمقدسات. مشكلة العرب والفلسطينيين أنهم لا يقرؤون ولا يريدون أن يقرؤوا فيظهرون دائما وكأن الأعمال الإسرائيلية تفاجئهم، وأنهم سيتخذون التدابير اللازمة لوقف (إسرائيل) عند حدها. البرامج السياسية والثقافية والتربوية الإسرائيلية لا تخفي شيئا أيضا بسبب تركيزها على قدسية القدس، وعلى مركزية الأماكن الدينية الإسلامية في الاعتقاد الديني اليهودي القائم حاليا، وإسرائيل لا تنفك تردد شعار العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأن لا قلب لإسرائيل ما لم تكن القدس هي العاصمة. كما تردد دائما أن السلام والمحبة لا يقومان في العالم إلا بعد بناء هيكل سليمان الذي من المفترض وفق الادعاءات اليهودية أنه كان يقوم على الأرض التي بني عليها المسجد الأقصى. والناظر إلى النشاطات الثقافية الإسرائيلية يرى أن (إسرائيل) لا تكتفي بتعاليم دينية حول القدس والأقصى، بل تحرص دائما على عمل الجولات الميدانية لأطفالها وشبابها في مختلف أرجاء فلسطين الانتدابية لما في ذلك من حفر للقناعات في عقول الأجيال. الموقف الفلسطيني الفلسطينيون موحدون في شجب واستنكار أعمال الإسرائيليين، وكل وسائل الإعلام الفلسطينية بمختلف أطيافها توسع السياسات الإسرائيلية هجاء، وتقدم برامج حول ما قامت به إسرائيل حتى الآن من سياسات تهويدية. عدا ذلك، الموقف الفلسطيني غير موحد. على المستوى الفلسطيني الرسمي والممثل بالسلطة الفلسطينية يعيش الفلسطينيون منذ أكثر من عشرين عاما مرحلة التنسيق الأمني، وهي مرحلة التعاون مع (إسرائيل) والحرص على أمنها من خلال نشاطات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وملاحقة الفلسطينيين وجمع سلاح المقاومة، ومتابعة الأموال التي يمكن أن تهرب بغرض دعم المقاومة الفلسطينية. ولهذا تقوم إسرائيل بمختلف انتهاكاتها وهي مطمئنة للحارس الفلسطيني الذي يلاحق المقاومين ويمنع النشاطات التي قد تؤدي إلى قيام انتفاضة جديدة قد تؤثر على وضع إسرائيل عالميا. لكن السلطة الفلسطينية لا تبخل بالتصريحات التقليدية التي يسمعها العربي، مثل: الاستمرار في البناء الاستيطاني يهدم عملية التفاوض، سياسات (إسرائيل) تخرب عملية السلام، المسجد الأقصى خط أحمر، إغلاق المسجد الأقصى بمثابة إعلان حرب، وغيرها من العبارات الجوفاء الخالية من أي مضمون عملي. كيف سيكون رد السلطة الفلسطينية لو سأل أحدهم فيما إذا كانت إسرائيل قد تجاوزت الخطوط الحمراء أم لا؟ وهل بقيت هناك آمال بأن عملية التفاوض مع (إسرائيل) ستفضي إلى خير يحصده الفلسطينيون؟ وإذا كان إغلاق الأقصى بمثابة حرب، فكيف ستحارب السلطة الفلسطينية؟ من الناحية الأخرى، هناك موقف فصائلي فلسطيني ممنوع من الحركة والنشاط، وهو متمثل بفصائل المقاومة وبالتحديد حماس والجهاد الإسلامي. هذه فصائل تريد أن تواجه الإسرائيليين، ولديها الرغبة في التضحية والفداء، وهي قادرة فيما إذا وجدت بابا مفتوحا أن تمارس نشاطاتها بكل شجاعة وبسالة. لكن مشكلة هذه الفصائل أن السلطة الفلسطينية تقف لها بالمرصاد وتلاحق أفرادها وسلاحها وأموالها، وتطرد عناصرها من وظائفهم وتلاحقهم بلقمة خبزهم ولقمة أبنائهم. ولهذا لم تستطع هذه الفصائل أن تنفذ أعمال مقاومة منظمة على مدى السنوات السابقة، وبقيت مقاومتها محصورة غالبا في أعمال فردية ينفذها مجاهدون أتقياء تحركهم التزاماتهم الدينية وإيمانهم القوي. قد يؤثر العمل الفردي بالإسرائيليين، لكن العمل المنظم أكثر جدوى، ومن المفروض أن تفتح السلطة الفلسطينية الأبواب أمام المقاومة وأن ترفع يدها عن نشاطات شباب وشابات فلسطين لكي يأخذوا أدوارهم في الدفاع عن الوطن والمقدسات. على المستوى الشعبي الفلسطيني، الشعب متحفز ويشعر بالإهانة والإذلال أمام الإجراءات الإسرائيلية العدوانية المتتالية. الشعب الفلسطيني لديه الاستعداد للتضحية، ولا يزال قادرا على صناعة الحدث التاريخي، لكن مشكلته أنه تعرض عبر سنوات السلطة الفلسطينية لهجوم على ثقافته الوطنية، وتم اتباع سياسات من شأنها صناعة ثقافة استهلاكية على حساب الثقافة الوطنية. كما أن الدول الغربية المعنية بتدمير الشعب الفلسطيني ومعها إسرائيل وبعض الفلسطينيين قد اجتهدوا كثيرا في صناعة هموم خاصة للفلسطينيين بعيدا عن الهم الوطني العام، فأصبح العديد من الناس مشغولين بلقمة الخبز والبحث عن الأموال وبعض أنواع ترف الحياة. لقد تراجع الهم الوطني كثيرا على الساحة الفلسطينية، وأكبر دليل على ذلك هو التفاعل شبه المعدوم مع القدس في أغلب التجمعات السكانية الفلسطينية عقب استشهاد المجاهد معتز حجازي. هذا فضلا عن أن رئيس السلطة الفلسطينية يتوعد دائما بأنه لن يسمح بقيام انتفاضة جديدة، وأكد أنه عمل على منع قيام انتفاضة أثناء العدوان على غزة عام 2014. المعنى أن شعب فلسطين في الضفة الغربية محاصر تماما وممنوع من مواجهة التحديات الإسرائيلية. أما الشعب الفلسطيني في غزة فيعاني مرارة الحصار وعدم القدرة على الحركة خارج القطاع. يبقى أمامنا الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة 48، والذي لا يبخل بتاتا في تقديم التضحيات اللازمة من أجل القدس، وهو الذي يشكل الآن الحارس الأمين على المقدسات الإسلامية. والمؤسف أن حرية حركة الفلسطيني في الأرض المحتلة 48 في الدفاع عن وطنه ومقدساته أكثر اتساعا من حرية حركته في الأرض المحتلة 67 وفي البلدان العربية. البلدان العربية يعيش الوطن العربي الآن مرحلة التحالف العربي الإسرائيلي، رغم أن بعض المثقفين العرب يسمونها مرحلة التواطؤ العربي مع (إسرائيل). وتقديري أن التواطؤ كان قديما، وتطورت الآن العلاقات بين (إسرائيل) وأغلب الأنظمة العربية إلى علاقات تحالف. هناك تعاون عربي مع إسرائيل ضد المقاومة العربية في غزة وجنوب لبنان، وهناك جيوش عربية تسهر على أمن إسرائيل وراحتها، وهناك فيض من المعلومات الاستخبارية التي تقدمها المخابرات العربية لإسرائيل. وقد انتشى نتنياهو أثناء حربه على غزة وهو يبشر الإسرائيليين بهذا التحالف والذي خبره حقيقة واقعة على الأرض، لقد حرص العرب خاصة الجانب المصري خلال الحرب عام 2014 على خنق غزة تماما لإضعاف مقاومتها وإرغامها على الاستسلام للإرادة الإسرائيلية. قد يذهب العرب إلى الأممالمتحدة يشتكون على (إسرائيل)، وقد يتحدثون عن القانون الدولي، لكن القانون يضعه الأقوياء ويطبقه الأقوياء، أما الضعفاء فوزنهم ضئيل جدا أمام القانون. وكم استعملت الأنظمة العربية الساحة الدولية للتغطية على عجزها وعدم رغبتها في مواجهة إسرائيل. ولهذا من المفروض ألا يبقى الأقصى على أعصابه ينتظر المدد العربي، لأنه لن يأتي. الساحة الدولية إذا كان للأقصى أن يأمل خيرا من أحد فذلك من الدول الغربية، الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة مع السياسات التهويدية الإسرائيلية رغم أنها تدين أعمال (إسرائيل) أحيانا أو تتحفظ عليها، إنها دول تقدم كل أنواع الدعم لإسرائيل وتحرص على أمنها وعلى سوق العرب للتعاون معها، لكن الدول الغربية لا تؤيد خرق نقطة التوازن بصورة فاضحة أو متهورة فيما يتعلق بالأماكن المقدسة. نقطة التوازن هذه هي النقطة التي يمكن أن تتدرج بها إسرائيل للسيطرة على المقدسات بسلاسة ونعومة ودون هزات سياسية يمكن أن ترفع من درجة التوتر في المنطقة، أي أن نقطة التوازن ليست ثابتة لكنها متغيرة بصورة بطيئة وتدريجية لصالح (إسرائيل)، وهي أشبه ما تكون بنقطة توازن العرض والطلب في سوق مستقرة. الأوروبيون والأميركيون يضغطون عادة على (إسرائيل) لكي لا تشكل سياساتها استفزازا للشعوب العربية والإسلامية، لأن في ذلك ما قد يراكم الأحقاد الجماهيرية ضد الأنظمة فيهدد مستقبلها، الأمر الذي ينعكس سلبا على المصالح الغربية. مصالح أهل الغرب متجذرة في الأنظمة السياسية العربية والإسلامية وفي السلطة الفلسطينية، ويجب عدم تعريض هذه الأنظمة للخطر حتى تبقى المصالح الغربية في المنطقة مستقرة. ولهذا خضعت (إسرائيل) لضغوط غربية هائلة بتاريخ 30/10/2014 لكي تفتح أبواب المسجد الأقصى، وفتحتها، فالمعنى إذن هو أن مصالح الدول الغربية المتنفذة قد تخدم الأقصى، وقد تحول دون هدمه أو الاستيلاء عليه الآن. وبخصوص المستقبل، فستستمر إسرائيل بسياساتها نحو تهويد الضفة الغربيةوالقدس والاستيلاء على المسجد الأقصى، وتحت الظروف السائدة الآن فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ستنجح كما نجحت عبر السنوات السابقة. لكن (إسرائيل) تصطدم الآن أيضا بقوى مقاومة تزداد قوة مع الزمن. هذه المقاومة يمكن أن تكسب زخما كبيرا فيما إذا غير النظام المصري القائم الآن من سياساته أو اختفى عن المشهد السياسي المصري. ومهما يكن فالمستقبل للمقاومة، وإذا كان للمقاومة الفلسطينية أن تعاني من الحصار والخنق فإن المقاومة اللبنانية في وضع عسكري مطمئن، ومن الممكن أن يردع (إسرائيل). وفي كل الأحوال، هذا القزم الصغير المسمى (إسرائيل) لا يمكن أن يبقى سيدا على هذا العربي العملاق. للتاريخ سيرة، وأمثال إسرائيل يطغون لمرحلة مؤقتة، لكنهم سرعان ما يتهاوون.