تلقي عدة ملفات متقادمة، من قبيل مدونة الشغل والحق في الإضراب والنزاعات الاجتماعية والانشقاقات النقابية، بظلالها على الطبقة العاملة المغربية في عيدها السنوي المصادف لفاتح ماي، لتحول المناسبة من موعد ابتهاج إلى موعد احتجاج. ذلك أن تباطؤ وتيرة تسريع ما اصطلح عليه ب"الحوار الاجتماعي" بين الحكومة والفرقاء الاجتماعيين منذ أمد، وتزايد الشروخ التي أضحت تعتري الجسم النقابي في كثير من مكوناته، ساهم بشكل كبير في المزيد من إضعاف الوضعية الاجتماعية للطبقة العاملة المنهكة في الأصل. الحوار الاجتماعي.. إلى متى؟ يصادف احتفال الطبقة العاملة بعيدها السنوي لهذا العام استئناف الحكومة الجديدة لأشواط أخرى من "الحوار الاجتماعي"، الذي سنت بدايته قبل أزيد من ست سنوات، دون أن يسفر لحد الآن عن نتائج تذكر. بل إن أكثر النقابيين ما عادوا يلقون لهذا الحوار بالا بعد أن خاب ظنهم في اتفاقات سالفة أبرمت نتيجة هذا الحوار، ومنها اتفاق فاتح غشت 1996 واتفاق يناير 2000 ثم اتفاق 19 محرم (أبريل 2000)، والذي نص من بين ما نص عليه الزيادة بنسبة 10 بالمائة في الحد الأدنى للأجور في القطاع الصناعي والتجاري والخدماتي بدءا من فاتح يوليوز 2001، لكن أية زيادة من هذا القبيل لم ترها الطبقة الشغيلة، وظلت بنود الاتفاق حبرا على ورق. كما ظل الحوار الاجتماعي، في نظر النقابيين، متصفا، في عهد حكومة التناوب إلى حدود نهايتها، بالفارغ، ذلك أنه كان في نظرهم تحدده قرارات مسبقة تضرب باقتراحات الشركاء النقابيين عرض الحائط. وإن كان البعض هذه السنة يستبشر خيرا بما وصلت إليه جولات الحوار الاجتماعي بين الحكومة الحالية والنقابات، ويقول إن نتائجه ربما تعرض خلال عيد العمال، فإن آخرين يشككون في ذلك، على اعتبار أن اللجان الخمسة المنبثقة عن الجولة الأولى من الحوار قد أنهت أعمالها ولم تفصل في عدة نقاط خلافية. بل إن البعض الآخر يلوم الحكومة على نهجها سبيل الإقصاء في حق هيئات نقابية كانت من أول المشاركين عند بداية مسلسل الحوار الاجتماعي، ومنها الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، مما قد لا يكسب نتائج الحوار القناعة المشتركة والرضى الواسع من طرف كل الفرقاء الاجتماعيين، مثلما لن يكون هناك اتفاق عريض حول أبرز ما ينتظر من نتائج هذا الحوار وهو الخروج بمدونة شغل طال أمد انتظارها. مدونة الشغل..الحلقة المفقودة ربما تكون مدونة الشغل أقدم القوانين التي ظلت قابعة في قاعة الانتظار دون حل منذ ما يزيد عن عشرين سنة. ويعود هذا التماطل في إخراج مدونة شغل تنظم العلاقات المهنية بين طرفي القطاع الإنتاجي الوطني إلى غياب إرادة حقيقية من لدن الحكومات المتعاقبة، على الرغم من طول جلسات ما عرف ب"الحوار الاجتماعي" بينها وبين باقي الأطراف الاجتماعية الأخرى. كما يعود هذا التماطل إلى شدة الخلاف القائم بين المشغلين والعمال، يصل إلى حد الصراع بين طرفي الشغل وما ينجم عنه من نزاعات اجتماعية مزمنة. وتتحدد نقاط الخلاف بين الشركاء الاجتماعيين في كل من نقطة "الحد الأدنى للأجور"، وكذا نقطة "احتلال أماكن الشغل عند الاحتجاج"، ونقطة "محاكم الشغل"، فنقطة "تنظيم الإضراب وعلاقته بالاتفاقات الجماعية، ثم النقطة الأخيرة والمتمثلة في "تحديد ساعات وأيام الفصل من العمل". وتؤكد، من جانبها، الشغيلة عبر ملفاتها المطلبية دائما على أن مدونة الشغل يجب أن تتماشى وتحسين مكتسبات الطبقة العاملة وتحفظ حقوقها. لذلك كانت ومازالت تطالب بحوار مشترك بينها وبين المشغلين حول نقاط الخلاف قبل الخروج بمدونة تراعي مصلحة الطرفين، وهو ما تؤكده أيضا الاتفاقات الكبرى التي أجرتها الحكومة والمركزيات النقابية في كل من فاتح غشت 1996 ويناير 2000، حيث تنص على أن المدونة من القضايا الكبرى التي يجب أن تطرح على الفرقاء الاجتماعيين قبل المصادقة عليها. وبذلك فإن طرحها على أنظار البرلمان دون رأي المركزيات النقابية، كما فعلت حكومة التناوب، كان خرقا لهذا الاتفاق، مما استدعى الحكومة الحالية إلى سحب مشروع المدونة من مجلس المستشارين وطرحه على أنظار الفرقاء الاجتماعيين مجددا خلال الحوار الاجتماعي. وعلى الرغم من هذه الخطوة المشجعة فإن البعض يشكك في إمكانية حل كل الإشكالات المطروحة في طريق الخروج بمدونة الشغل، بل هناك من يذهب بعيدا بقوله إن سحب مشروع المدونة من البرلمان سيعيد النقاش حول الأخيرة لنقطة البداية ويدخلها في نفق تفاوضي قد يطول أمده. الانشقاقات النقابية وتحكم السياسي في النقابي لعل أبرز ما ميز المشهد النقابي الوطني هذه السنة هو الانشقاق الذي حصل داخل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي خرجت من رحمها مركزية جديدة سميت قبل أيام ب"الفيدرالية الديمقراطية للشغل". وأعاد هذا الانشقاق إلى أوساط النقابيين إشكالية تحكم السياسي في كل ما هو نقابي، بالنظر إلى الخلفيات التي حكمت هذا الانشقاق. فالداعين إلى ما اصطلح عليها ب"نقابة بديلة" سميت فيما بعد بالفدرالية، أعابوا على الجهاز التنفيذي للكونفدرالية بنهجه مسار"البيروقراطية" و"السلطوية" التي تنزع، في رأيهم، إلى الدفع نحو استغلال نفوذ المركزية النقابية في أغراض حزبية تخدم على سبيل الخصوص حزب المؤتمر الوطني الاتحادي الذي كان انشق بدوره عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ويزيد هؤلاء تأكيدا على طرحهم بالاستشهاد بما كان قد قام به المكتب التنفيذي للكونفدرالية بحل الاتحادات المحلية والمكاتب الجهوية في عدد من المدن، حيث كان الهدف أساسا، كما يقول المنشقون، سحب البساط من تحت أرجل كل اتحادي قيادي جهوي. بالمقابل يرد الراسخون تحت سقف الكونفدرالية بالقول إن المنشقين لا يهدفون من وراء تأسيس مركزية جديدة غير "فتح حانوت نقابي لمصالح سياسية صرفة"، أو كما يلقبونها. وهم يتهمون في ذلك الاتحاد الاشتراكي بافتعال الانشقاق لتأسيس مركزية موالية له تأخذ بأوامره الحكومية طالما ظل حزبا مشاركا في صنع هذه الأوامر. ومهما تكن صحة أسباب هذا الطرف أو ذاك أو مهما تكن الانشقاقات النقابية ممارسة للحق في التعددية، إلا أنها تظل في العمق مشثتة لجهوذ الطبقة العاملة وخانقة إياها في صراعات ضيقة تنسيها مسؤوليتها الأولى في الدفاع عن مكتسبات الشغيلة والرفع منها بعيدا عن كل حسابات سياسية أو غيرها. الحريات النقابية..المقيدة مثلما أثار قرار الحكومة أخيرا الاقتطاع من أجرة يومين في حق الذين خاضوا الإضراب الأخير في قطاع التعليم حفيظة النقابات الداعية للإضراب وبقوة، كذلك أثار وبقوة أيضا موضوع الحريات النقابية مجددا، خاصة في ظل القمع المتزايد الذي أبانت عنه الحكومة أوبعض أرباب المقاولات في حق الممارسين لحق الإضراب الذي يكفله الدستور. فتزايدت حالات الاعتقالات في صفوف المضربين، ومنها ما حدث العام المنصرم بالنسبة لمضربين من جماعة العدل والإحسان، الذين مازال بعضهم يقبع في السجن، أوالتسريحات المتتالية لعمال نقابيين في معامل القنيطرة والدارالبيضاء والمحمدية تحديدا. وتطرح بذلك مثل هذه السلوكات ضرورة الاتفاق على قانون منظم للحق في الإضراب يقنن عبره حدود كل طرف من طرفي الشركاء الاجتماعيين من مشغل وعامل. وقد تقدمت في هذا السياق الحكومة بمشروع من هذا القبيل عرضته أخيرا على الأطراف النقابية والاتحاد العام للمقاولات بالمغرب، إلا أن كثيرا من النقابيين يرون أن مثل هذا القانون يستلزم حوارا وطنيا يشمل كل الفرقاء لمدراسة القانون التنظيمي قبل إخراجه والمصادقة عليه. في حين لا يتوانى آخرون عن التأكيد برفضهم لأي مشروع يمكن أن يجهز على مكتسبات الطبقة العاملة المتعلقة بالحق في الاحتجاج أو ممارسة العمل النقابي. هموم وأثقال الملفات التي تقع على عاتق الطبقة العاملة بالمغرب لا تنسيها بكل حال هموم الطبقة العاملة في كل من فلسطين والعراق التي تعاني الأمرين. بل إن العديد من التظاهرات والندوات التي أقامتها المركزيات النقابية هذه السنة اختارت في الغالب شعارات مساندة لهذه الطبقة المحرومة. وتماشيا مع هذا السياق، دعا المؤتمر العربي العام الثالث للقوى والأحزاب العربية والإسلامية إلى اعتبار يوم فاتح ماي يوما لدعم العراق وفلسطين. يونس البضيوي