الرقيب محمد محفوظي، أحد المفرج عنهم أخيرا من معتقلات "البوليزاريو" ل"لتجديد":لم آكل اللحم منذ سقطت في الأسر سنة 1979 إلى سنة 1991 ربما يجهل العديد من سكان مدينة سطات أن أحد أبناء المدينة أمضى 24 سنة في غياهب سجون ما يسمى ب"البوليزاريو"، أسر وهو شاب يبلغ من العمر 22 سنة، وعاد وهو كهل يحمل هموم الأسر وذكريات مريرة سكنت أعماق كيانه وهو في سن يقارب الخمسين (46 سنة) الآن، أفرج عنه من "تندوف" يوم 26/02/2003. التحق الرقيب محمد محفوظي بالجيش الملكي سنة 1976، وهو خريج المدرسة العسكرية للهندسة، شارك في أربع عمليات عسكرية ضد "المرتزقة" أسر في آخرها. أفنى زهرة شبابه في سبيل الدفاع عن الوطن، مورست عليه شتى أنواع التعذيب والقهر والتجويع، عاد إلى وطنه الذي ضحى من أجله... والآن جاء دور الوطن لينصفه وليضحي من أجله، اتصلنا بالسيد محمد محفوظي فأجرينا معه الحوار التالي:
> السيد محمد محفوظي نود أن نعود بكم إلى نقطة البداية، كيف ومتى أسرتم من طرف ما يسمى ب"البوليزاريو"؟ >> بعد معركة دامت زهاء 5 ساعات، وأمام العدد الكبير لمرتزقة "البوليزاريو" أسرنا نحن 13 جنديا بموقع "الحنك الكحل"، شرق آسا واد درعة يوم 21/09/1979، لأننا فوجئنا بذلك العدد كما قلت، إضافة إلى التغطية التي كانت من جانبهم. بعد أسرنا، أخذونا مباشرة إلى "الرابوني" وهو المقر الرئيسي للمرتزقة 21كلم جنوب تندوف، منذ ذلك الزمن إلى حلول يوم العودة ونحن في ذلك الموقع.
> وماذا عن الظروف والأحوال التي كنتم ترزحون تحتها في معتقلات "البوليزاريو"؟ >> كنا نعيش في ظروف قاسية جدا، تعذيب، أعمال شاقة، حرمان، نقص في التغذية، انعدام التطبيب، التعذيب النفسي، والخلاصة أننا كنا نئن تحت عذاب يومي. لا يعير هؤلاء الجلادون اعتبارا لا لأيام العيد ولا لشهر رمضان المعظم ولا لأي شيء.
> هل بإمكانكم ذكر بعض أشكال التعذيب التي مورست عليكم؟ >>إلى حدود سنة 1989 كانت الظروف قاسية، لم يكن هناك سكن، كنا ننام في حفر مغطاة بأكياس... تلفحنا أشعة الشمس وتقشعر أبداننا أثناء البرد القارس، المأكولات متسخة ومتعفنة... قضيت في فترة معينة أربع سنوات بغطاء واحد يقوم بدور الفراش والغطاء معا. إضافة إلى ذلك كنا ننقل من مكان إلى آخر من أجل الأعمال الشاقة، لم تكن هناك راحة إطلاقا، ناهيك عن التعذيب النفسي الذي كنا نتعرض له كل ليلة ما بعد منتصف الليل، وعلى رأس كل ساعة، حينما كان يتفقد عناصر "البوليزاريو" الأسرى لإحصائهم مخافة فرار أحدهم.
> كيف كان وضعكم العام (اللباس، الأكل...) كنا عرايا، وهناك العديد من الأشياء أخجل من قولها، وربما لن يصدقها القارئ، فمثلا في سنوات 1979 1980 1981 1982 كان الوضع مزريا جدا، حيث القمل في كل مكان من أجسام الأسرى، في حواجبهم وأهذابهم وشواربهم... وإذا ما خلع الأسير معطفه كان يتناثر منه القمل... الماء كان قليلا جدا، وعندما كنا نزدحم من أجل الحصول على الماء في بعض الأحيان، يضرب الأسرى بالرصاص، وكان القتل يتم بدم بارد، وعم الموت البطيء للعديد من الأسرى بسبب انعدام التطبيب، والكثير منهم مات تحت التعذيب. بالنسبة للأكل، كنا نأكل العدس و"اللوبيا" والحمص... وما جاورهما لكن طبخه كان رديئا جدا، كنا "نرفس" معه الخبز لكي نتغلب شيئا ما على رداءة طعمه، باختصار، نأكل من أجل الصمود والبقاء على قيد الحياة، أما التوازن الغذائي فهو منعدم إطلاقا، وبالمناسبة أذكر لك شيئا مثيرا هو أنني لم آكل اللحم منذ سقطت في الأسر سنة 1979 إلى سنة 1991.
> أمام هذه المحن والظروف القاسية جدا، كيف كنتم تتغلبون على هذه القساوة والمعاناة..؟ >> نتغلب على كل هذه المحن بالصبر وبحب الوطن، كنا نقول دائما: سواء كتب الله لنا العيش في هذه الحياة والعودة إلى وطننا الحبيب، أو انتقلنا إلى رحمة الله، فقد ربحنا صحراءنا، لقد تعذبنا وقاسينا، ومنا من استشهد، لكن لن يظفروا بصحرائنا المغربية، لذلك، الشيء الوحيد الذي كان يقوي إرادتنا وعزيمتنا رغم التعذيب والأعمال الشاقة والظروف المزرية التي عشناها هو كما قلت حبنا لوطننا ولقضيتنا الوطنية. وقد تجد بعض الأسرى وهم تحت التعذيب، يقولون لعناصر "البوليزاريو" إن الصحراء مغربية وإنكم تعيشون حياة ذليلة، لا ينعم في هذا المكان إلا كباركم وقادتكم الذين يتاجرون في التموين، وما تغدقه عليهم المنظمات الدولية، ربما بتواطؤ مع بعض الأفراد. إضافة إلى ذلك فهذه المنظمات تكون سببا في تعذيب الأسرى بتقديمها مشاريع "للبوليزاريو"، ونكون نحن من يقوم بتلك الأعمال الشاقة جدا.
> كم هو عدد الأسرى الذين لازالوا يقبعون في سجون "البوليزاريو"؟ >> لازال 1160 أسيرا يئنون تحت وطأة التعذيب والحرمان، فإن كنا قد عدنا إلى وطننا، لكن لازالت الآلام تسكن وجداننا وكياننا وقلوبنا على إخواننا الأسرى المتبقين هناك، فصور ومشاهد 42 سنة من الأسر مع التعذيب والتجويع والتنكيل... محفورة وبقوة في ذاكرتنا، لذلك فقلوبنا تحترق على الإخوة الأسرى المتبقين، نتمنى من الله أن يفك أسرهم ويفرج عنهم في القريب العاجل.
> بعد عودتك إلى وطنك وإلى كنف عائلتك بعد غيبة طويلة... ما هو وضعك الآن؟ خصوصا على المستوى المادي والاجتماعي... >> لقد كنت ضابط صف في الجيش، أسرت في ريعان شبابي (22 سنة)، عدت وعمري 46 سنة، حالتي الاجتماعية عازب، لحد الساعة ليست لي القدرة والاستطاعة على الزواج، إخواني هم اللذين يتكفلون بي الآن. أريد تكوين أسرة وأن أعيش وأعوض عن سنين القهر والاضطهاد... كمواطن مغربي ضحى بزهرة شبابه في سبيل الوطن وأنا سعيد جدا بهذا الشرف. لكن أطلب إنصافي، لقد سقطت في الأسر وأنا برتبة رقيب (شارجان)، وعندما عدت وجدت زملائي في الفوج ترقوا ووصلوا إلى رتبة نقيب (كابتان)، وأنا الآن سأتقاعد برتبة "شارجان"، بعدما قضيت 24 سنة ليست في الرفاهية ولست مع أسرتي... لكن في ظروف لا مثيل لها في القساوة والتعذيب، فبماذا خرجت؟
> ماهو شعورك وأنت تعود إلى بلدك وتلتقي بعائلتك بمدينة سطات؟ وما هو التغيير الذي لاحظته؟ >> عندما استقبلني إخواني بمدينة أكادير، والله لم أعرف أحدا منهم، وجئت بارتسامات معينة، لكن حين رأيت إخواني تغيرت تلك الارتسامات والتخيلات، وأحسست أن هناك تغييرا جذريا في حياتي، وعندما خرجت إلى الشارع وشاهدت المواطنين، أصبحت لدي رؤية أخرى للمغرب، أما عندما وصلت إلى مسقط رأسي مدينة سطات، فوجدتها في حلة أخرى لدرجة أنني لم أعد أعرف الطريق إلى بيت أهلي.
> هل كنتم تتبعون ما يحدث بالمغرب من تغيرات على مستويات عدة؟ >> بدأت بعض الانفراجات المحدودة جدا منذ 1997 على مستوى متابعة الإعلام عن طريق المذياع أو التلفزة، فتتبعنا أحداث بلدنا، وأريد بالمناسبة أن أذكر نقطة حساسة جدا، أنه عند سماع نبأ وفاة جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، انبرى كل الأسرى في القاعة إلى البكاء حزنا على وفاته، ويحدث هذا في قلب "البوليزاريو" الذي كان بعض عناصره يتشفون فينا، وتابعنا مراسيم تشييع الجنازة على التلفاز، وكان هناك حداد للأسرى رغم أحزانهم ومحنهم اليومية.
> ماذا تودون قوله في ختام هذا الحوار؟ >> والله لي الشرف الكبير أنني أمضيت 24 سنة من الأسر من أجل قضيتنا الوطنية، ذقت فيها مرارة الأسر مع رجال ومجاهدين جاهدوا من أجل هذا الوطن لكي يعيش مغربنا موحدا مطمئنا من طنجة إلى الكويرة. لذلك أتوجه بنداء إلى المسؤولين لتكثيف الجهود من أجل الإفراج عن الأسرى المتبقين في المعتقلات، فمنهم من أمضى 28سنة ولازال، فجل الأسرى إن لم نقل الكل، أصيبوا بأمراض مزمنة خطيرة، ومنهم من أصيب بأمراض عقلية، كما أناشد المسؤولين الاهتمام بالأسرى المفرج عنهم، والذين ضحوا بأحلى أيامهم في سبيل وطننا الحبيب... مع إنصافهم تعويضا عن السنين التي قضوها في المعتقلات والتعذيب الذي مورس عليهم، وأريد أن أشير خصوصا لقراء مدينة سطات أن هناك 5 أسرى سطاتيين لازالوا في الأسر نسأل الله أن يفرج عنهم، كما لا يفوتني أن أشكر جريدة التجديد على هذه الالتفاتة الكريمة والتي ستزيد من معنوياتنا بإذن الله. حوار: محمد معناوي