كثيرون لا يعرفون بأن حزب العدالة والتنمية المغربي هو امتداد لفكرة المشاركة السياسية التي تم تطويرها داخل حركة التوحيد والإصلاح منذ حوالي ربع قرن. من الناحية الرسمية ولدت حركة التوحيد والإصلاح سنة 1996 من رحم اندماج عدد من الجمعيات الإسلامية المتفرقة (حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي التي بدورها جمعت شتات ثلاث جمعيات إسلامية وهي: الشروق بالرباط والدعوة بفاس والجمعية الإسلامية بالقصر الكبير)، لكن تاريخ هذه التنظيمات يعود إلى نهاية الستينات وبداية السبعينات. حركة التوحيد والإصلاح تنظم اليوم مؤتمرها الوطني الخامس تحت شعار «الإصلاح تعاون ومسؤولية»، وينتظر أن يعرف المؤتمر حضورا هاما للعديد من الوجوه الدعوية والسياسية من أبرزهم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، الذي يعتبر من المؤسسين الأساسيين لهذه الحركة. من المنتظر أن يعرف هذا المؤتمر تغييرا في قيادته بعد استنفاد الرئيس الحالي المهندس محمد الحمداوي لولايتين متتاليتين. وقد نجحت الحركة في ترسيخ منهج التداول الديموقراطي على المسؤوليات سواء على المستوى الوطني أو على المستويات المحلية. كما نجحت في المحافظة على خصوصيتها كحركة إسلامية ملتصقة بالبيئة المغربية وليست لها أية ارتباطات تنظيمية بحركات إسلامية خارج التراب الوطني، وساهم مفكرو الحركة ومثقفوها في إشاعة فكر إسلامي معتدل ينهل من مدرسة المقاصد كما تبلورت في الغرب الإسلامي من الشاطبي إلى ابن عاشور إلى علال الفاسي إلى أحمد الريسوني الذي سبق له أن ترأس الحركة منذ ولاتها الثانية وفي ظروف سياسية صعبة. مسؤولو الجماعة لا يخفون استفادتهم من التراث الحركي والفكري لجماعة الإخوان المسلمين وغيرها، لكنهم رفضوا بشكل قاطع، ومنذ وقت مبكر، فكرة الالتحاق بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. أدبيات الحركة تعرف نفسها بأنها إطار مدني مغربي يعمل على إقامة الدين في الفرد والأسرة والدولة والأمة والتعاون مع الغير على الخير والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة… مفهوم «إقامة الدين» يستحق التأمل، فهو مفهوم يقابل «إقامة الدولة الإسلامية» كما درجت عليه مجموعة من الأدبيات الحركية لتنظيمات إسلامية أخرى، وهو ما جنب الحركة السقوط في منطق التنازع والصراع السلطة بقدر ما وفر لها الظروف المناسبة لبلورة فكر سياسي ديموقراطي يحاول توفير الظروف الثقافية لتنافس سياسي على السلطة بغرض توظيفها لإصلاح الأوضاع في البلاد في إطار منطق التعاون مع جميع المؤسسات. خاضت الحركة نقاشا فكريا وسياسيا داخليا استمر أكثر من سنتين ليثمر معالم مشروع دعوي يستند على رؤية وسطية تنهل من مدرسة المقاصد الشرعية باستقلال نسبي عن الأدبيات المشرقية. من قلب هذه النقاشات تمت بلورة فكرة التخصص وظهر بأن هناك حاجة إلى التمييز بين مجال الدعوة ومجال السياسة، بين مستلزمات العمل الدعوي ومستلزمات العمل السياسي. كما تم التأكيد على منهج التعاون مع المؤسسات عوض منهج الصراع والتنازع، هذه الفكرة أثمرت استقلالية تنظيمية كاملة بين مؤسسة الجمعية / الحركة وبين مؤسسة الحزب، كما أثمرت تخصص مجموعة من أطر الحركة في المجال السياسي وابتعادهم عن العمل الدعوي، والعكس أيضا، فرموز الحركة وقياداتها الأساسية ليست لهم أي مسؤوليات سياسية وكثير منهم لا يترشح للانتخابات أصلا. تحاول الحركة أن تصبح ضميرا أخلاقيا للمجتمع بأسره، وليس ضميرا للحزب السياسي المرتبط بها عضويا، وهناك مجهودات واضحة للتموقع في الساحة كفاعل مدني يشتغل على ترشيد الخطاب الديني ويعمل على الدعوة إلى الله بالرفق والموعظة الحسنة. إلى أي حد توفقت الحركة في ذلك؟ هذا ما سيعكف المؤتمرون على مناقشته على امتداد ثلاثة أيام، لكن الملاحظة البارزة أن حركة التوحيد والإصلاح تقدم في وسائل الإعلام على أساس أنها تمثل الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، بينما يصر آخرون على تقديم الحزب كذراع سياسية للحركة، وفي جميع الحالات فإن حركة التوحيد والإصلاح لازالت مرتبطة بشراكة استراتيجية مع حزب العدالة والتنمية وليس مع غيره، وهذا أمر طبيعي بحكم تاريخ النشأة وبحكم فتوة الحزب نفسه، لكن من المؤكد أن مساحات هائلة من التأثير والإشعاع في أوساط مختلفة يعوقها الارتباط الحاصل مع حزب العدالة والتنمية، كما أن المجتمع بكافة فئاته يحتاج إلى القيم التربوية والفكرية التي تدعو لها الحركة، وهو ما يستدعي ضخ جرعات جديدة من الانفتاح والتخلص من رواسب الضبط التنظيمي الذي لايتلاءم مع نموذج حركة إسلامية أثبتت مرونة كبيرة، فكرية وسياسية ونفسية، جعلتها تقدم على تفويت عملها السياسي بأكمله لحزب سياسي لا تملك عليه أي سلطة.. من التحديات المطروحة على الحركة في المرحلة المقبلة هو ضخ جرعات جديدة من الاجتهاد الفكري بغية الإسهام في ترشيد التدين المغربي الذي خضع لمؤثرات خارجية تمتح من فكر ظاهري بعيد جدا عن مراعاة قوانين المعاصرة والقدرة على الاشتباك مع قضايا الواقع، واجتراح حلول عملية صالحة للتطبيق وقادرة على إسعاد الناس في حياتهم الدنيوية والأخروية. من المؤاخذات التي ينتقدها البعض على الحركة، هو تراجع الخطاب النقدي اتجاه بعض الاختيارات الثقافية والتربوية والسياسية والاقتصادية للدولة، خصوصا بعد دخول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة.. لسنا هنا بصدد الرغبة في إقحام الحركة في سجالات ذات طبيعة سياسية انطلاقا من منظور حزبي ضيق، بقدر ما هناك حاجة لاحتفاظ الحركة كفاعل مدني عن استقلاليتها الفكرية وجرأتها الأدبية اتجاه انحرافات السلطة وانحرافات المجتمع.