صدور الظهير الشريف في شأن تنظيم مهام القيمين الدينيين وتحديد وضعياتهم يعتبر خطوة جد مهمة في اتجاه التأطير القانوني لهذه الفئة التي ظلت تشتغل لمدة طويلة خارج أي نص قانوني يحدد بالتدقيق مفهومها ووظائفها وحقوقها وواجباتها، وتكمن أهميته أكثر بكونه جاء ليضع بشكل دقيق شروط التعاقد بين هذه الفئة والقطاع الوصي، ويلزم الوزارة بتعليل القرارات ذات الصبغة الجزائية في حالة تم الإخلال من قبل القيم بأحد الواجبات المنصوص عليها قانونيا، كما حسم بشكل صارم في وظائف القيم الديني ومنعه من القيام بأي نشاط سياسي أو نقابي أو اتخاذ أي مواقف تكتسي صبغة سياسية أو نقابية. والحقيقة أن المشكلة ليست في المبدأ، فمبدأ التمييز بين الوظائف الدينية والسياسية مشروع وضروري، ذلك أن وظيفة الإمام الجامعة تقتضي مخاطبة كل شرائح المجتمع بمختلف أطيافها، وتقديم مادة توجيهية يتقاسمها الجميع وتحييد المنابر عن المناكفات السياسية، بل تحييد القيم الديني نفسه عن الاصطفافات السياسية والنقابية، وهو في حد ذاته مكسب للدين والمجتمع على حد سواء، لأنه يبقي وظيفة الدين الجامعة من جهة، ويمنع الانقسام المجتمعي على أساس توجيه ديني ذي طابع سياسي أو نقابي. من هذه الجهة لا يطرح المبدأ أي مشكل، لكن المشكلة تطرح على مستوى الممارسة، وبالتحديد في السلطة التي تقدر ما يندرج ضمن نشاط سياسي او موقف يكتسي صبغة سياسية وما لا يكون كذلك. الانتماء إلى الأحزاب والدعاية لها داخل المنابر أو خارجها من قبل القيمين الدينيين أو الدخول في مواجهة مع بعض الأحزاب واستغلال الموقع الديني، هذا صورته واضحة في كونه يندرج ضمن المحظور قانونيا بمقتضى نص الظهير الشريف، وهذا لا خلاف حوله، لكن المشكلة تطرح عندما يناقش القيم الديني- الخطيب مثلا- قضية مجتمعية ويتناولها بالتوجيه والإرشاد أو ربما الإنكار الديني ولا يكون لها أي علاقة بالاصطفافات الحزبية أو النقابية، فما الضوابط التي ستعتمد لتمييز ما يندرج ضمن النشاط السياسي وما يندرج ضمن وظائف الإمام الدينية بهذا الخصوص، وهل ستنحو الممارسة نحو دمج هذه الأشكال في لون واحد وتبرير التوقيف أو إنهاء العقد كما هو منصوص عليه في الظهير الشريف؟ النص القانوني واضح، فهو يجيز بمقتضى المادة 20 باتخاذ قرار معلل بالتوقيف مع الحرمان من الراتب كلا أو بعضا في حالة الإخلال، ويجيز بمقتضى المادة 21 بإنهاء العقد، وحتى اللجنة الموكول إليها النظر في التظلمات والشكايات فلا يتعدى دورها تقديم التوصيات التي ينص القانون أن للوزارة عدم الأخذ بها إن تعذر عليها عمليا ذلك. معنى ذلك أن شرعية المبدأ قد تفقد روحها مع التباس الممارسة، إذ لاشيء يمنع من اليوم أن تصدر التوقيفات المعللة بقيام القيم الديني بنشاط سياسي لمجرد أنه تحدث عن حرمة العري، وحرمة شرب الخمر وحرمة الإفطار في شهر رمضان، ما دام أن هذه القضايا تتجاذبها سياسيا وحقوقيا آراء مختلفة بين من يناصر المرجعية الإسلامية ومن يتبنى منطق الحريات الفردية، إذ على الخطيب في حالة عدم التأويل الواسع لمفهوم النشاط السياسي، أن يكشط الدين كشطا، ويلخصه في رقائق ومواعظ بعيدا عن أي حديث عن أحكام الشريعة. المحذور الثاني المطروح على الممارسة، ما يرتبط بمفهوم النشاط النقابي، وهل يتعلق الأمر بحظر العمل النقابي داخل هذه الفئة اتجاه الوزارة الوصية، وهذا مقام، وبين أن تجرد الخطيب الذي ينتمي مثلا إلى فئة أخرى مثل الأساتذة الجامعيين وأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي وغيرهم من الانتماء النقابي في أسلاكهم الخاصة للدفاع عن حقوقهم المشروعة؟ بكلمة، نخشى أن تحيد الممارسة عن تطبيق روح مبدأ التمييز بين الوظائف الدينية والسياسية المنصوص عليها في الظهير، وأن توظف الصلاحيات الواسعة الممنوحة للوزارة الوصية كسند لاعتماد تأويل واسع لمفهوم النشاط السياسي والنقابي ينتهي بوظيفة الإمامة والخطابة والإرشاد والتوجيه إلى قص جناحها وتقليص وظيفة الدين في معالجة الاختلالات المجتمعية وتكريس عزلته عن دوره الحيوي وقصر مفعوله في الجانب التخليقي فقط دون بقية أدوراه المجتميعة الأخرى.