يمكن القول، وبدون أدنى تردد، بأن التقرير التركيبي الذي خلص إليه الحوار الوطني حول المجتمع المدني هو وثيقة غير مسبوقة في هذا المجال في تاريخ المغرب السياسي، لأنها شرحت بتفصيل دقيق وضعية المشاركة المدنية ونقاط قوتها وضعفها، ووقفت بوضوح على أهم الإكراهات التي يواجهها العمل المدني في المغرب، سواء في علاقته بالسلطة والتضييقات والتجاوزات التي ترتكبها في حق المجتمع المدني أو في خرق مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص والشفافية في التعامل مع مكونات المجتمع المدني، أو في علاقته بالذات الجمعوية ومواردها البشرية والمالية ومستوى الشفافية والحكامة ومنسوب الديمقراطية الداخلية عندها، كما وضع - بناء على هذا التشريح الدقيق- التوجهات الكبرى للعمل المدني التي تنزل مقتضيات الدستور، وتعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني وتكرس ثقافة المبادرة وحضور المجتمع المدني في المجتمع وفي مراقبة السياسات العمومية، وتدعم استقلالية جمعيات المجتمع المدني، وتضع أسس ميثاق وطني للديمقراطية التشاركية. والواقع، أن القضية اليوم ليست في مخرجات الحوار، فالتشخيص والتوجهات الكبرى كما التوصيات كلها مطروحة اليوم بين يدي الحكومة والمؤسسة التشريعية، بل هي أيضا موضوعة بين يدي كل مكونات المجتمع المدني. القضية اليوم، هي في كيفية التعامل مع هذا المجهود الكبير الذي أخذ وقتا طويلا في الزمن – قرابة سنة- وامتدادا في مكونات المجتمع المدني- حوالي 10 آلاف جمعية مشاركة فيه- وتعددا في الأطراف المشاركة في الحوار – جمعيات المجتمع المدني، مؤسسات عمومية، قطاعات وزارية، باحثين، خبراء من الداخل والخارج... نعم، تنزيل مقتضيات الدستور يلح على ضرورة توفير الأرضية القانونية المؤطرة لمشاركة المجتمع المدني في صناعة القرار السياسي، سواء عبر آلية الملتمسات أو العرائض أو عبر آليات الديمقراطية التشاركية، لكن القضية غير متوقفة على تفعيل هذه المقتضيات الدستورية، وإنما تشمل أيضا جوانب أخرى بالغة الأهمية منها الأرضية القانونية التي تخص تنظيم الحياة الجمعوية، ومنها أيضا الجانب الأخلاقي المرتبط بالتوافق على ميثاق وطني لتدبير الديمقراطية التشاركية، ومنها ما يخص جانب الحكامة وتدبير مالية المجتمع المدني، ومنها ما يرتبط بإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على قاعدة دعم استقلالية و العمل المدني وتكريس مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص والشفافية في التعامل مع مختلف فعاليات المجتمع المدني. الكرة اليوم في ملعب المؤسسة التشريعية، وفي ملعب الأغلبية والمعارضة على السواء، لأنه من العيب أن تضيع كل هذه الجهود المضنية، ويبطل مفعولها بحجة أن المؤسسة التشريعية هي صاحبة الأمر والحسم في الموضوع. نعم ، لا أحد يقول العكس، لكن، آن الوقت ليسود المنطق التكاملي بدل المنطق السياسوي، فالمجتمع المدني اليوم، عبر مخرجات الحوار الوطني، قد قدم أرضية كل ما يحتاجه المشرع لكي يصوغ مشاريع القوانين التنظيمية الخاصة بتنظيم شكل مساهمة المجتمع المدني في التشريع، كما قدم أفكاره في موضوع الديمقراطية التشاركية، فما يلزم اليوم هو أن نختصر المسافة، وأن نمضي بالسرعة القصوى لبناء الجسر القوي الذي يجمع الفاعل السياسي بالفاعل المدني في بناء الديمقراطية وصناعة القرار السياسي ومراقبة السياسات العمومية. نعم، في كل حوار ، قد يغيب البعض لاعتبارات يعبر عنها صراحة أو يخفي مقاصدها، لكن، في حالة الحوار حول المجتمع المدني، لكن محدودية هذا الغياب بالنظر إلى الامتداد والتوسع والتعدد الذي شهده الحوار حول المجتمع المدني، لم يعد يشكل أي مبرر لأي طيف سياسي بأن يجعل مخرجات هذا الحوا وراء ظهره إلا أن يكون القصد هو الاعتراض من أجل الاعتراض أو منع الآخر من تحقيق أي إنجاز يذكر. نأمل، أن تتحمل المؤسسة التشريعية مسؤوليتها في التعامل مع نتائج أوسع حوار وطني عرفه تاريخ المغرب، وأن تتجه إلى تعزيز المقاربة التكاملية بدل استدعاء المنطق السياسوي الذي يقضي على رصيد الثقة في العمل السياسي، ويضعف مصداقيته، ويجعل نقاش الأفكار وتداولها يتراجع لحساب منطق الحساب والعدد. بلال التليدي