عندما خرجت الشعوب العربية مطالبة بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية في عدد من الدول العربية، فقد كان ذلك تعبيرا عن تشكل وعي جديد يستبطن إرادة التحرر من هيمنة الاستبداد وطغيان جحيم الفساد، أو بتعبير آخر إعادة بناء وظائف جديدة للدولة لتغطية الخصاص الاجتماعي والاقتصادي وتجاوز حالة الانسداد السياسي التي سادت في المنطقة بعد المرحلة الاستعمارية. لكن، من ناحية أخرى فإن انفجار المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع النزعة الترافعية والمطلبية اتجاه مؤسسات الدولة يستبطن نزوعا نحو تكريس هيمنة الدولة وترسيخ احتكارها لوظيفة الضبط الاجتماعي عبر آلية التوزيع من الأعلى. ربما هناك حاجة لإعادة النقاش حول الأدوار الجديدة للمجتمع المدني، بالموازاة مع إعادة هندسة أدوار الدولة، بغية تحرير طاقات المجتمع وتحويلها من خدمة الدولة إلى خدمة المجتمع. فقبل الفترة الاستعمارية كان المجتمع المدني هو الأصل، وكانت الوحدات الاجتماعية الدنيا من الأسر والعشائر والقبائل والجماعات والزوايا والمساجد تعمل على تغطية حاجات المجتمع اعتمادا على إمكانياتها الذاتية، بينما كانت السلطة المركزية تقوم بأدوار رمزية محدودة.. وقد تعرضت مجتمعاتنا بعد عملية التحديث القسري التي خضعت لها إلى هيمنة أدوار الدولة المركزية، واحتلالها لمساحات واسعة سحبت من المجتمع المدني أدواره الاجتماعية والتنموية التي كان يقوم بها بشكل طبيعي.. اليوم هناك حاجة لاستعادة نوع من التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتجاوز تغول الدولة وهيمنتها، وبالمقابل تطوير المجتمع المدني وعقلنة أدائه، وذلك على ضوء رؤية جديدة تؤمن بإمكانية استرجاع القدرات الوظائفية للمجتمع المدني على قاعدة قيم التضامن والمساواة وإشاعة نفس الحوار والعدل الاجتماعي. إنها بعبارة أخرى، بناء مفهوم جديد لقيمة المواطنة يوازن بين المطالبة بتكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق وانتزاع الحق في المشاركة، وبين استعادة دور المبادرة وتعزيز ثقافة القيام بالواجب. إن تطلعات التغيير التي عبرت عنها ثورات الربيع العربي، كشفت عن الإحساس بضعف المشاركة في شؤون المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي بصدد رسم آفاق جديدة للانتساب إلى الوطن وتعزيز قيمة المشاركة العامة، وتجاوز آليات الإخضاع التام الذي لجأت إليه الدولة السلطوية في السابق، ولم تتحرر من آثاره الحكومات الجديدة. إن بناء منظور جديد للمواطنة يتجاوز منظور المشاركة التقليدي الذي يحصر دور المواطن/ الفرد في الإدلاء بالصوت الانتخابي، لتوسيع آفاق المشاركة عبر تطوير أدوار المجتمع المدني انطلاقا من مفهوم الديموقراطية التشاركية، أضحى ضرورة ملحة في الوقت الراهن. فمفهوم المواطنة باعتباره قيمة أخلاقية وفلسفية لتأطير علاقة الفرد والدولة، أصبح بحاجة إلى إعادة التعريف في أفق بناء تعاقد جديد بين الفرد والدولة، وفق آليات دستورية وتشريعية جديدة، وقوانين تحدد الحقوق والواجبات وتعيد بناء التوازن بين أدوار الدولة والمجتمع، أو بتعبير آخر بناء رؤية تكاملية بين الديموقراطية التمثيلية وبين الديموقراطية التشاركية. خلال الأيام الماضية، انطلق نقاش كبير في المنطقة العربية حول القوانين الجديدة المنظمة لدينامية المجتمع المدني، ففي مصر عرضت رئاسة الجمهورية مشروع قانون جديد للجمعيات الأهلية أمام مجلس الشورى، تعرض للكثير من الإشكاليات المتعلقة بالتنظيم والتسيير والتمويل الخارجي، وقضايا أخرى أثارت نقاشات كبرى في الأوساط الجمعوية بين الرافضين والمتحمسين للمشروع، وهو ما يعكس دقة اللحظة السياسية الراهنة وحاجة الجميع إلى نقاش عميق حول أدوار الدولة وأدوار المجتمع المدني. وفي المغرب أنشأت الحكومة المغربية لجنة وطنية تتكون من فعاليات جمعوية ومن ممثلي بعض الوزارات وممثلي غرفتي البرلمان وبعض المؤسسات الوطنية، أطلقت في بداية هذا الأسبوع نداء تدعو من خلاله المواطنين والمواطنات وجميع الفاعلين المدنيين والجمعيات والشبكات وجميع الهيئات المعنية إلى المشاركة في الحوار الوطني حول المجتمع المدني في أفق استخلاص جواب مشترك نابع من مقترحات واجتهادات مختلف مكونات المجتمع المدني، ومن أجل تفعيل المرتكزات والأحكام الدستورية المتعلقة بالديمقراطية التشاركية، والإسهام في توفير الشروط القانونية المثلى لتفعيل أدوار المجتمع المدني المتعلقة بمجال التشريع والرقابة وصياغة وتتبع وتقييم السياسات العمومية. النقاش حول المجتمع المدني في المنطقة العربية، لن ينطلق من فراغ فهناك تراكم هائل لأدوار المجتمع المدني في الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي مباشرة الفعل التنموي والخدماتي.. اليوم هناك حاجة ماسة للتفكير الجماعي من أجل العمل على توفير الشروط اللازمة للرفع من أداء المجتمع المدني ليكون في مستوى الأدوار المنوطة به من الناحية التاريخية، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز حرية واستقلالية الجمعيات، ومشاركتها في إعداد ‘وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية ، وتدبيرها على أساس المبادئ الديمقراطية، وتعزيز حكامتها المالية، وتحقيق تكافؤ الفرص بينها، وتوفير الحق في المعلومات المرتبطة بالولوج إلى الشراكات ومصادر الدعم العمومي، وتمكين العاملين في المجال التطوعي من إطار قانوني ملائم، كفيل بتأهيل العمل الجمعوي ليكون شريكا كاملا في المسار التنموي والديموقراطي الوطني والجهوي والمحلي ، بالإضافة إلى بلورة ميثاق أخلاقي يتواضع عليه الجميع، على أرضية مبادئ وحقوق وواجبات الديموقراطية التشاركية وآلياتها ‘وخلق تكامل خلاق مع الديموقراطية التمثيلية. محطة النقاش العمومي حول المجتمع المدني، هي محطة مدنية وديمقراطية بامتياز، تستدعي التفكير بروح جماعية ‘مبدعة، قصد تعزيز مكتسبات ومكانة المجتمع المدني أولا، والعمل على توفير الشروط اللازمة للرفع من أدائه وتمكينه من الانخراط الكامل في البناء الديمقراطي والتنموي ‘ثانيا، حتى يكون الجميع في الموعد التاريخي لإعادة التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع.