إن "شبكة الأمان" المالي التي تعهدت بها الجامعة العربية يوم الأربعاء 9 أبريل 2014 لحكومة منظمة التحرير الفلسطينية برام الله هي سلاح ذو حدين، فهي من ناحية سلاح تهدد الجامعة بقطعه للضغط على المفاوض الفلسطيني كي يستمر في التفاوض وهي من ناحية ثانية تمثل حافزا ماليا له للاستمرار في المفاوضات، في الأقل مع الأميركيين. ويكرر مفاوضو منظمة التحرير القول إنهم كانوا يتفاوضون مع الأميركيين معظم الوقت وكذلك قالت مؤخرا تسيبي ليفني رئيسة الوفد المفاوض الحالي لدولة الاحتلال، ويحرص كلا طرفي التفاوض على استمرار تفاوضهما مع الأميركان للاتفاق على جولة جديدة للمفاوضات الثنائية بينهما ضمن أطر ومرجعيات جديدة شكلا لكنها في الجوهر لا تخرج عن أطر ومرجعيات جولات التفاوض السابقة. لذا تشير كل الدلائل إلى أن المفاوضات مستمرة، سرا حتى يتم الاتفاق على جولة جديدة علنية، طالما الأطراف الأربعة الأميركية والإسرائيلية والعربية والفلسطينية استمروا في التزامهم بالمفاوضات من حيث المبدأ في سياق "عملية السلام" التي يجمعون على الالتزام بها. لقد كانت "عملية السلام" وما تزال عملية أميركية – إسرائيلية، صناعة وإنتاجا وإدارة، وكانت المفاوضات وما تزال أداتها الأهم لانتزاع التنازلات العربية المطلوبة، وقد فرض الجبروت الأميركي والعجز العربي والإسلامي عن مواجهته العملية ومفاوضاتها ومرجعياتها وسقفها ومداها الزمني على القيادة الفلسطينية بالضد من إرادة شعبها مقابل الاعتراف بها ممثلة شرعية وحيدة لهذا الشعب. وما زالت هذه العملية ناجحة في خدمة أهداف دولة الاحتلال وراعيها الأميركي على أفضل وجه، ولذلك يحرصان على المسارعة إلى ترتيب جولة جديدة من جولات مفاوضاتها كلما أخفقت جولة في انتزاع تنازلات فلسطينية جديدة، فنجاح "عملية السلام" يكمن في استمرار المفاوضات مهما تعددت جولاتها. لقد انهارت جولة المفاوضات الثنائية بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي التي استؤنفت في تموز/يوليو الماضي قبل الموعد النهائي المحدد لانتهائها في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، ليضاف فشلها إلى فشل الجولات السابقة للمفاوضات التي بدأت قبل ما يزيد على عشرين عاما. وكان استمرار الالتزام الفلسطيني بالمفاوضات بالرغم من فشلها هو الدليل الدامغ على نجاح "عملية السلام" التي ترعاها الولاياتالمتحدة. وبالرغم من فشل الجولة الحالية للمفاوضات كرر مفاوض منظمة التحرير التزامه ب"عملية السلام" وبمفاوضاتها، وهو الآن ينتظر جولة جديدة لها، ويتجه نحو الأممالمتحدة بطلبات انضمام إلى بعض معاهداتها ووكالاتها، أو التهديد بطلب الانضمام لبعضها الآخر، من أجل تحسين شروط استعداداته للجولة الجديدة. ولهذا الغرض، وكما جرت العادة، يتجه هذا المفاوض كذلك إلى جامعة الدول العربية للاستقواء بمباركتها لاستمراره في استراتيجية التفاوض وللحصول على تأييدها لاستعداداته لجولة جديدة. وفي هذا السياق جاءت الدعوة التي وجهها مجلس الجامعة العربية -- بعد اختتام اجتماعه الطارئ الذي عقده في العاصمة المصرية يوم الأربعاء الماضي بطلب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس -- إلى الولاياتالمتحدة لمواصلة مساعيها من أجل استئناف المفاوضات وجاء "التقدير" الذي أعلنه المجلس لجهود وزير خارجيتها جون كيري في هذا الشأن. لذا كان من المتوقع أن يحمل مجلس الجامعة العربية "المسؤولية الكاملة" عن فشل الجولة الحالية للمفاوضات لدولة الاحتلال الإسرائيلي وليس لراعيها الأميركي أو لكليهما في الأقل. غير أن الجامعة العربية حرصت دائما كما في هذه المرة على إعفاء الولاياتالمتحدة من أي مسؤولية عن فشل المفاوضات الحالية أو السابقة وعن استمرار الاحتلال وعن الوضع الراهن للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ومن المعروف أن الإدارة الأميركية للصراع العربي الإسرائيلي على فلسطين كانت حتى الآن "تدير الصراع" ولا تبحث عن حل عادل له، بانتظار أن تضمن التطبيع العربي والإسلامي مع دولة الاحتلال قبل البدء الجاد في حل الجوهر الفلسطيني للصراع، من أجل حرمان النضال الوطني الفلسطيني من حاضنته العربية والإسلامية، وتجريد عرب فلسطين من سلاح التضامن العربي والإسلامي وعزل نضالهم عن عمقه الاستراتيجي. وقد حققت الإدارة الأميركية اختراقات هامة في هذا المجال، فقد أخرجت القوة المصرية العربية الأكبر من الصراع، وكذلك الحدود الأردنية العربية الأطول، بمعاهدتين للسلام مع دولة الاحتلال وسّعت حدودها الأمنية إلى الحدود الليبية والعراقية. ونجحت في إبرام اتفاقيات سلام انتقالية مع منظمة التحرير الفلسطينية وحرصت على أن تبقى هذه الاتفاقيات انتقالية ومؤقتة حتى انتزعت إجماع الدول العربية على "مبادرة السلام العربية" التي فتحت الأبواب العربية أمام التطبيع العربي مع دولة الاحتلال. وهي على الأرجح سوف تبقي هذه الاتفاقيات انتقالية ومؤقتة حتى تنتهي من تصفية "العقبة" السورية التي تحول حتى الآن دون اكتمال "طوق السلام" العربي حول دولة الاحتلال خصوصا بعد أن أسقطت هذه "العقبة" معاهدة سلام مماثلة مع لبنان. وفي هذا السياق يمكن فهم تصريح رئيسة الوفد المفاوض لدولة الاحتلال، تسيبي ليفني، في الأسبوع الماضي عن زياراتها مؤخرا لإحدى عشرة دولة عربية خلال خمسين يوما. لذا فإن تعهد مجلس الجامعة العربية يوم الأربعاء الماضي بتنفيذ قرار القمة العربية بتوفير "شبكة الأمان" المالي لحكومة منظمة التحرير هو تعهد ل"المفاوض" الفلسطيني يمول معارضته للمقاومة أيا كانت أشكالها وليس تعهدا للشعب الفلسطيني في حال قرر التخلي عن استراتيجية التفاوض بما يتعارض مع مبادرة السلام العربية التي تجدد مؤتمرات القمة العربية الالتزام بها منذ تبنيها عام 2002. لكن المسؤولية الكاملة عن فشل الجولة الحالية للمفاوضات وجولاتها السابقة تقع على عاتق الولاياتالمتحدة، فكونها تفرض نفسها وسيطا وحيدا لرعاية المفاوضات يجعل الفشل في التفاوض فشلا لها ولسياستها الخارجية في المقام الأول. فواشنطن هي التي تلجأ إلى تحريك المفاوضات كلما توقفت أو وصلت إلى طريق مسدود بالرغم من إدراكها بأن دولة الاحتلال تسعى إلى استمرار هذه المفاوضات كهدف في حد ذاته يحسن صورتها دوليا كقوة احتلال، ويمنحها المزيد من الوقت لمواصلة استعمارها الاستيطاني، ويوفر لها غطاء سياسيا لهذا الاستعمار، ويحمّل المانحين لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الأعباء المالية لإدارة الاحتلال بدلا منها حسب القانون الدولي، ويضمن لها استمرار التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في حماية المستعمرات الاستيطانية ومنع أي مقاومة للاحتلال. وتعد المفاوضات فاشلة من وجهة النظر الفلسطينية، لكنها ما زالت تحقق لدولة الاحتلال هذه الأغراض وغيرها وبالتالي فإنها في رأيها تعد ناجحة وتحرص على استمرارها، بينما تعد الولاياتالمتحدة استمرارها نجاحا لما تسميه "عملية السلام" التي ترعاها وتسعى إلى استمرارها كهدف في حد ذاته أيضا ضمن استراتيجية إدارة الصراع التي تنتهجها. وفي هذا السياق تكون "عملية السلام" ومفاوضاتها ناجحة تماما في خدمة أهداف صانعيها، الذين سوف يحرصون لهذا السبب بالذات على ترتيب جولة جديدة من مفاوضاتها كي تظل دوامة التفاوض دائرة، لذا لم يكن مستغربا أن يطالب نتنياهو، على ذمة هآرتس الخميس الماضي، بضمانات أميركية بأن لا يقطع الفلسطينيون أي مفاوضات يتم استئنافها أو يوقفوها كي يوافق على اتفاق جديد على استئنافها، لتظل المفاوضات فاشلة فقط من وجهة نظر من راهن من العرب والقيادات الفلسطينية على وهم الخروج منها بأي مكسب لقضيتهم العربية الإسلامية العادلة في فلسطين. في مقال له نشرته "الخليج" الإماراتية الخميس الماضي، علق الكاتب الفلسطيني عوني فرسخ على ترحيب حركات حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والمبادرة الوطنية وشخصيات فلسطينية عامة أخرى بطلب الرئيس عباس الانضمام إلى (15) معاهدة واتفاق دولي بالرغم من تأكيده الالتزام بخيار المفاوضات، ليتساءل الكاتب: "هل إن أقصى ما قد تؤدي إليه مستجدات المشهد الفلسطيني تمكين محمود عباس ولجنة فتح المركزية من تحسين قدراتهم التفاوضية مع حكومة(رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين) نتنياهو، وتعزيز رهانهم على الدور الأمريكي؟"