(كانت مفاوضات منظمة التحرير الفلسطينية في الواقع منذ بدايتها مفاوضات مع الولاياتالمتحدة وكانت نتيجتها فشلا ذريعا حتى الآن، فهي لم تغير قيد أنملة في الموقف الأميركي الذي راهنت المنظمة عليه) بقلم نقولا ناصر* منذ اليوم السابع للعدوان الذي تسميه دولة الاحتلال الإسرائيلي "حرب الأيام الستة" عام 1967 والإدارات الأميركية الحاكمة المتعاقبة تكرر ما قاله وزير خارجيتها جون كيري بعد لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم يوم الأربعاء الماضي عن كون المستوطنات "غير شرعية". غير أن هذه السياسة الأميركية المعلنة ظلت حبرا على ورق حتى الآن، وتدور في حلقة مفرغة يداعب لفظها ولفظيتها أوهاما تفاوضية فلسطينية بوعود متكررة كاذبة لا تزال تجد آذانا فلسطينية صاغية كان ينبغي للتناقض بين القول وبين الفعل الأميركي أن يصيبها بالصمم منذ أمد طويل. وهو ما يستدعى مراجعة فلسطينية ملحة ومستحقة منذ مدة طويلة للدور الأميركي في الاحتلال والاستيطان المتواصلين منذ عام 1967 وكذلك في إصرار منظمة التحرير الفلسطينية على الرهان على هذا الدور والارتهان له، ناهيك عن مراجعة الدور الأميركي التاريخي في اغتصاب فلسطين وفي زرع دولة المشروع الصهيوني فيها ثم في ضمان أمنها ومدها بكل أسباب البقاء والتوسع والاحتلال. إن تعهد الرئيس السابق للولايات المتحدة، جورج دبليو. بوش، لرئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، آرييل شارون، في الشهر الرابع من سنة 2004 بعدم انسحاب قوات الاحتلال إلى خطوط الرابع من حزيران قبل ستة وأربعين عاما، وبالاعتراف بالمستعمرات الاستيطانية كأمر واقع يستدعي "تبادلا للأراضي" يضمها إلى دولة الاحتلال قد تحول إلى سياسة رسمية أميركية تحولت بدورها إلى مرجعية للمفاوضات التي ترعاها واشنطن حولت هذه المفاوضات إلى عملية تفاوض على تقاسم الضفة الغربية بين مواطنيها من عرب فلسطين وبين مستوطنيها اليهود غير الشرعيين. يقول تقرير حديث لمعهد جيمس ايه. بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس إنه "لا يوجد أي بديل لقيادة الولاياتالمتحدة في حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني" وإن "المفاوضات من دون قيادة أميركية قوية لا تكون واقعية" لأن "اختلال القوى بين الطرفين يظل أكبر من أن يسمح بالتفاوض والاتفاق من دون تدخل جوهري من طرف ثالث". لكن التقرير يغفل حقيقة أن الولاياتالمتحدة كانت تمارس هذا الدور طوال العشرين عاما المنصرمة من دون نتيجة وحقيقة أن دورها لم يعوض عن اختلال موازين القوى بين طرفي الصراع وبالتالي وصلت المفاوضات برعايتها إلى طريق مسدود بينما يبدو الاتفاق مستحيلا في أي مدى منظور. أي أن الفشل الذريع كان هو النتيجة الوحيدة للدور الأميركي لأنه دور لم يستطع تجاوز شرط دولة الاحتلال القديم الجديد بعدم تدخل الوسيط الأميركي في المفاوضات وبأن تكون المفاوضات "ثنائية" وبأن يقتصر دور الوسيط الأميركي على "محاولة المساعدة في تسهيلها" فقط كما قال كيري في زيارته الأسبوع الماضي، وهو ما يستبعد أي "قيادة أميركية قوية" للمفاوضات وأي وساطة أميركية نزيهة غير منحازة في المستقبل المنظور، بالرغم من تجديد كيري وعده لعباس بأن يكون دور بلاده "أنشط" إذا استمرت المفاوضات. قالت "رويترز" إن كيري خلال زيارته الأخيرة "وصف مسارين" للمفاوضات الجارية، الأول بين فريقي التفاوض، والثاني بينه وبين عباس ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي باراك أوباما، ونسبت رويترز إليه قوله عن المسار الثاني "إننا سوف نتشاور في ما بيننا ونعمل لتحريك العملية قدما" عندما "نعتقد ذلك مناسبا". وربما بسبب وجود هذا "المسار الثاني" لم يبت عباس باستقالة الوفد المفاوض في المسار الأول إذا صحت الأخبار عن تقديم استقالة كهذه. وفي هذه الأثناء تظل المفاوضات على أي مسار جرت تدور في الدهاليز الأميركية المغلقة ويظل الشعب الفلسطيني مغيبا تماما عن مجرياتها وتفاصيلها. وفي هذا السياق، لاحظ تقرير معهد بيكر أن "التعاون بين قوى الأمن الإسرائيلية والفلسطينية زاد الأمن الإسرائيلي وخفض الاحساس بالحاجة الملحة للتوصل إلى اتفاق سلام شامل في أوساط صناع السياسة الإسرائيليين" بينما لا يزال الوسيط الأميركي ومفاوض منظمة التحرير يصران على الالتزام ب"التنسيق الأمني" الفلسطيني مع دولة الاحتلال. لقد تحول الدور الأميركي إلى غطاء غير شرعي لاستمرار الاستعمار الاستيطاني مدعوم بغطاء عربي وفلسطيني يسوغه، لا بل ويبني عليه عملية تفاوضية لا تزال تضفي على الاستيطان شرعية فلسطينية، ولا تزال مدرسة "المفاوضات حياة" لا تجد في استفحاله وتسارعه اللذين يهددان بتهويد القدس إلى غير رجعة مسوغا كافيا للتخلي عن المفاوضات كاستراتيجية من دون أي رجعة إليها طالما استمرت موازين القوى الراهنة وفي صلبها الدور الأميركي المنحاز لدولة الاحتلال. في مقال له في الرابع من هذا الشهر لاحظ المفكر اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي التناقض بين دعوة الولاياتالمتحدةللفلسطينيين للتفاوض من دون شروط مسبقة وبين إصرارها على شرطين مسبقين حاسمين أولهما أن "المفاوضات يجب أن تتوسط الولاياتالمتحدة فيها، وهي ليست طرفا محايدا بل شريكا في الصراع" مشبها ذلك باقتراح أن "تتوسط إيران في الصراعات بين السنة وبين الشيعة في العراق". وثانيهما أن "التوسع الاستيطاني غير القانوني يجب السماح له بالاستمرار كما استمر من دون توقف" طوال العشرين سنة الماضية من عمر اتفاق أوسلو، لتكون النتيجة في رأيه هي أن "إسرائيل تتوسع بطريقة منهجية بدعم أميركي" توسعا يجهض حل الدولتين كخيار معلن، بينما حل دولة واحدة لشعبين مرفوض إسرائيليا وأميركيا ودوليا كخيار ثان، ليظل "الخيار الثالث، الذي يتخذ شكله أمام أعيننا" عن طريق الاستعمار الاستيطاني وضم الأراضي هو "الخيار الذي تعمل عليه إسرائيل الآن بدعم أميركي ثابت" لدولة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر. لقد كانت مفاوضات منظمة التحرير في الواقع منذ بدايتها مفاوضات مع الولاياتالمتحدة وكانت نتيجتها فشلا ذريعا حتى الآن، فهي لم تغير قيد أنملة في الموقف الأميركي الذي راهنت المنظمة عليه. والتناقض الأميركي الصارخ بين القول وبين الفعل له نسخة فلسطينية فاضحة ليس لها من الأعذار الامبريالية والصهيونية ما لمظلتها الأميركية، كون رموزها من أصحاب القضية الوطنية بل وجزء لا يتجزأ من "الممثل الشرعي والوحيد" لشعبها. فهؤلاء لسانهم ضد أي استئناف للمفاوضات من دون أن يتوقف الاستيطان وضد الانحياز الأميركي لدولة الاحتلال وضد الانفراد الأميركي برعاية المفاوضات، لكنهم كانوا وما زالوا من الناحية العملية شركاء في كل الحصاد المر للسنوات العشرين المنصرمة وغطاء يضفي شرعية فلسطينية زائفة على المفاوضات وعلى الدور الأميركي بحجة ظاهرها حق يخدم باطلا، وهي حجة حماية شرعية منظمة التحرير. إن الفصائل الفلسطينية الأعضاء في منظمة التحرير التي ما زالت تصر على الاحتفاظ بعضويتها فيها بحجة حماية شرعيتها على حساب الثوابت الوطنية التي أنشئت على أساسها تجد نفسها اليوم عاجزة عن الموازنة بين ادعائها بالالتزام بحماية شرعية المنظمة وبين استمرارها في إضفاء شرعية المنظمة على مفاوضات تعلن معارضتها لها. فقد أصبحت صدقية هذه الفصائل على المحك أمام المعارضة الوطنية المعلنة للمفاوضات في إطار منظمة التحرير وخارجها، وحان الوقت كي تثبت بأنها ليست مجرد شاهد زور على مرحلة تاريخية من النضال الوطني آن لها أن تنتهي بكل ما لها وعليها. فإما أن تسحب هذه الفصائل شرعية المنظمة عمن يفاوض باسمها أو تنسحب من منظمة باتت شرعية تمثيلها لشعبها على المحك، فذريعة عرض ما قد تتمخض عنه المفاوضات على استفتاء شعبي ليست كافية لتبرئة ذمة هذه الفصائل من المسؤولية التاريخية والوطنية عن استمرار الحرث الفلسطيني في البحر الأميركي. * كاتب عربي من فلسطين