الرغبة في التدين هي شعور فطري يمثل مطلبا ملحا للنفس الإنسانية، كما قال الله عز وجل "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (الروم: 30). "فأقم وجهك للدين حنيفا" أي: استقم على هذا الدين دون ميل أو انحراف عن طريقه، ودون سلوك تلك المسالك الجانبية التي تكتنف هذا الطريق. وهذا الأمر الرباني هو أمر للإنسان بما استقر في فطرته مما يجده ويحس به شعورا عميقا في أعماق تلك النفس، وإذا ما تجاوزنا إشكالية سعي البعض لطمس هذه الفطرة أو محاولة وأد هذا الشعور أو التقليل من أهميته، فإننا نجد أنفسنا أمام إشكالية لا تقل خطورة عن الإشكالية الأولى، وهي إشكالية عدم القدرة على سلوك الطريق الصحيح نحو هذا التدين، وهذه الإشكالية يسهم في إيجادها وتعميقها عدة عوامل منها، أن التوجه المعارض للتدين يؤسس معارضته على رصد ودراسة ورسم استراتيجيات، ويتم ترجمة ذلك إلى مواقف من أجل أن يحاصر واقع ترشيد التدين، وبغرض أن يكون هذا وسيلة لمحاصرة التدين نفسه، لأن الجنوح بالتدين ذات اليمين وذات الشمال (الإفراط أو التفريط)، هو في حد ذاته محاصرة لواقع التدين، وهذا يبرز أهمية التباحث في موضوع ترشيد التدين، وضرورة البحث عن التدين الراشد والعمل على إرشاد المتدينين. معالم ترشيد التدين فالمنطق يقتضي منا تأسيس هذا البحث على منهجية تنطلق من مصدري التدين الأساسيين والجوهريين المحيطيين بأصوله ومعالمه وهما (القرآن والسنة) وهذا يحيلنا على المعلم الأول من معالم ترشيد التدين؛ المعلم الأول ضبط المرجعية فهو المعلم الأول في ترشيد التدين، فالعقل البشري مهم في إدراك برهان ضرورة التدين وحقيقته لكنه ليس مرجعية التدين، كذلك العلماء المصلحون والفقهاء والمربون مهمون في سلوك مسلك التدين ومعرفة تفاصيل سلوك طريقه لكنهم ليسوا المرجعية لهذا التدين وإنما المرجعية في الوحي كما هو نص قوله تعالى "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" (طه:123). ولما كان التدين سلوكا شموليا متعدد الأبعاد فقد تعززت المرجعية فيه بمدرسة تطبيقية تبين الوجه الأكمل والسليم للعمل بهذه المرجعية وتجسيدها في الواقع العملي للناس وهذه المدرسة هي مدرسة السلف الصالح. وتتفرع عن المعلم الأول تتفرع باقي المعالم ويأتي على أولها المعلم الثاني ألا وهو ضبط القصد وهو ضرورة إخلاص التدين لله كما قال تعالى "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء" (البينة:5)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" أي إنما الأعمال جزاء وثوابا وعقابا بالنيات قصدا ومبتغى. أما المعلم الثالث فهو ضبط الإطار وإطار ترشيد التدين الإتباع، كما قال سبحانه تعالى "اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون" (الأعراف:3)، فالتدين وصفة جاهزة والله تعالى أكمل عناصره فقال تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (المائدة:3). أما المعلم الرابع فهو ضبط المسار والمعلم في هذا هو ضرورة لزوم طريق التوسط والاعتدال، وكثير ما يشبه النص الشرعي التدين بسلوك الطريق قال تعالى "وأن هذا صراطي مُستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" (الأنعام: 153) وسالك الطريق يطلب منه التوسط في سلوكه حتى يكون أبعد عن الخروج عن الطريق والانحراف عنه، ومما يلازم حركة التدين أن كل متدين يرى نفسه على طريق التوسط والاعتدال، ولكن الإشكالية في مفهوم التوسط والاعتدال، وحل ذلك هو لزوم الهدي النبوي المبارك في كل مناحي التدين. أما المعلم الخامس فهو المخالطة الإيجابية، وذلك لأن التدين هو التفاعل، فالمطلوب من الإنسان أن يكون متدينا في بيئته وفي مجتمعه وفي وطنه، وليس المطلوب الاعتزال بالتدين لأنه الرهبانية، وهي التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها"، فالدين الذي شرعه الله لا يعرف الرهبانية، قال عليه السلام "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم"، ومن التطبيقات المهمة لهذا المعلم، الانخراط في سلك تقديم الخدمات المجتمعية التي تسهم وتعزز من وضعية بلده ومجتمعه وأهل وطنه، وتعزز مفهوم الوطنية بشكله الشرعي الذي يعني التعايش والتكافل بين أهل الوطن الواحد، وما يتعلق بالاهتمام بالشأن العام، والعمل من خلال مؤسسات الدولة وكل هذا صار جزءا لا يتجزأ من التدين وأن كانت بعض التصورات تحاول أن تبعد الدين عن هذه المنظومة وهذا من الخطأ. المعلم السادس وهو ضرورة دلالة الخلق على الله، وذلك أن الإسلام لم يربط نجاة الفرد بتدينه، فتدين الفرد في نفسه ليس كافيا لاستكمال عناصر النجاة كما قال تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فجعل الله هذا التواصي شرطا في النجاة أو الخسران لذلك حذر أبو بكر الصديق من قوم يتأولون قوله تعالى "يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" (المائدة:105)، التي فهم منه البعض أن المسلم مطلوب منه أن يهتدي ويتدين ولا يضره ذلك في من لم ينخرط في هذا الطريق، فقال أبو بكر أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تتأولونها على غير معناها أو واني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليختمنّ الله على قلوبكم.