حراك آخر حول مناهضة الاجهاض انطلق، لكن هذه المرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فبعد إسبانيا التي أقرت قانونا جديدا يضيق مجال الإجهاض إلى أضيق حد، وبعد المظاهرة الكبيرة التي تحركت في وشارع باريس تطالب بالاحتذاء بالنموذج الإسباني وحماية الأسرة الفرنسية، قدم التيار الجمهوري المحافظ في أمريكا مقترح قانون لمجلس النواب يقضي بعدم تعويض شركات التأمين لعمليات الإجهاض، والذي تم تبنيه الثلاثاء الماضي من قبل مجلس النواب بتصويت 227 مقابل 188 صوتا من المعارضين الديمقراطيين. ومع أن هذا القانون سيتم عرضه على الغرفة الأخرى للكونغرس، و يمكن أن يجد معارضة قوية من قبل الديمقراطيين، إلا أن مجرد طرح مشروع قانون بهذه الصيغة، يعطي صورة للجدل المجتمعي حول قضية الاجهاض في المجتمع الأمريكي، وحجم الإبداع والاجتهاد في تحويل هذه الأفكار إلى قوانين وسياسات عمومية بين مكونات المجتمع الأمريكي، فبعد أن نجح الجمهوريون في يوينو الماضي في تمرير قرار في مجلس النواب بمنع الإجهاض في 20 أسبوع من الحمل، جاء هذا القانون الجديد ليجعل منع استعمال المال العام في عملية الإجهاض، كليا ودائما، وبل وممتدا حتى إلى القطاع الخاص، مع استثناء حالتين اثنتين فقط، تماما كما هو القانون الإسباني، اي حالة تعرض صحة المرأة إلى الخطر، أو حالة الاغتصاب. هذه الدينامية المجتمعية التي تعرفها المجتمعات في كثير من بلدان العالم، لا سيما منها العلمانية، تسمح باستنتاج ثلاث دلالات أساسية: 1- الأولى، أن قضية منع الإجهاض أو تقييد السماح به، ليست مقصورة على المجتمعات الإسلامية، وإنما هي ظاهرة عامة في جميع بلدان العالم، وأنها إن كانت اليوم تبدو مرتبطة باليمين المحافظ أو بالتيار المحافظ بسبب دور التوجه الديني في تحديد مفهوم العائلة والأسرة، فيمكن أن تتحول في الآماد المتوسطة والبعيدة إلى ظاهرة حقوقية، ويصير لها أنصار من خارج التيار المحافظ، ممن يناصرون الحق في الحياة، ويدافعون عن الأسرة الطبيعية. 2- الثانية، أن النموذج العلماني الأمريكي، لا يضيق بوجود تيارات محافظة تجتهد في بلورة أفكارها وتحويلها إلى قوانين وسياسات عمومية، وأنه لا يعمل سلطة العلمانية لمنع تأثير الدين في الفضاء العام، بل بالعكس من ذلك، تتعايش الأطروحات المستندة إلى مرجعيات مختلفة، وتكون كلمة الحسم للآليات الديمقراطية، خلافا للنموذج الفرنسي الذي يستعمل سلطة العلمانية لمصادرة حق مكونات مجتمعية في تبني أفكار مستندة إلى قناعاتهم الدينية بل والحقوقية أيضا. 3- الثالثة، أنه ليس هناك من إمكانية لاستيعاب التطور المجتمعي والتعاطي مع التعددية الفكرية، إلا بصيغة تجمع بين ضمان حق الآخرين في الاستناد إلى مراجعاتهم في طرح الأفكار والسياسات العمومية التي يقترحونها، وبين الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية في الحسم، مع ترسيخ مبدأ التداول على السلطة، بما يعنيه هذا المبدأ من إمكانية مراجعة القوانين، وتجديد النقاش المجتمعي حول كل القضايا المجتمعية الحساسة. بكلمة، الخلاصة الكبيرة التي يمكن أن نستفيدها من تأمل هذه الدينامية المجتمعية التي انطلقت في العالم حول قضية الإجهاض، هي أن المشكلة ليست في حضور الدين في الفضاء العام، ولا في تأثيره في صناعة قناعات مكونات مهمة في المجتمع، وإنما المشكلة تتمثل في ضيق أفق النماذج السياسية لدى بعض الدول في استيعاب هذه الحقائق السوسيولوجية وتأطيرها بالآليات الديمقراطية التي تفرض على هذه المكونات تحويل هذه الأفكار إلى سياسات عمومية تتمتع بنفس شروط التعامل الديمقراطي التي تتمتع به مشاريع القوانين الأخرى، ويكون التصويت عليها تأييدا أو رفضا مدعاة إلى إعادة تجديد الدينامية السياسية للتيارات المختلفة في المجتمع والبحث عن مصادر قوة جديدة لدعم المواقف والمواقع معا. هذا هو الدرس البارز الذي ينبغي أن نستفيده، من هذه التجربة، وهو الذي يعطينا يقينا بأن النماذج العلمانية التي تتمتع بقدر محدود من خاصية الاستيعاب مثل النموذج الفرنسي، ستجد نفسها في المدى المتوسط والبعيد عاجزة عن تقديم جواب عن التطور المجتمعي المرتقب، إلا أن تبادر إلى إعادة النظر في أسس نموذجها.